قد يوافق البعض أو يرفض ما يصنعه اللواء خليفة حفتر بعملية كرامة ليبيا، لكنه بالطبع نقطة فاصلة في مرحلة شديدة الاضطراب، في بلد في غاية الأهمية الاستراتيجية لجيرانه غرباً (الجزائر) وشرقاً (مصر)، وأيضاً للولايات المتحدة الأميركية، وهو دلالة قاطعة على حدوث «تغيير» مفاجئ وكبير في الأفكار الأميركية تجاه المنطقة العربية برمتها، وخاصة دور الإخوان في دول الربيع العربي.
ولا يمكن أن نستوعب أن تكون عملية اللواء حفتر العسكرية لتطهير مدينة بنغازي من الجماعات الإرهابية المتطرفة، دون إيماءة من رأس الولايات المتحدة، تعني أنها لا تمانع ولا تعترض.
فاللواء حفتر صاحب علاقة قديمة مع واشنطن ترجع إلى ستينيات القرن العشرين، فقد كان ضابط الاتصال بين ضباط الانقلاب العسكري الذي قاده معمر القذافي في سبتمبر 1969 وأنهى به حكم السنوسي، ويمكن القول إن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم أجمع التي كانت على علم مسبق بانقلاب القذافي.
ولم يكن عشوائياً اختيار اللواء حفتر للولايات المتحدة ملاذاً له حين تفرقت السبل بينه وبين القذافي، وقد انتقل إليها وعائلته وبعض أفراد قبيلته، ولم يرجع إلا مع اندلاع ثورة 17 فبراير 2011، ويستحيل أن يكون رجوعه دون استئذان، كجزء من عمليات الربيع العربي التي كانت تحرك الولايات المتحدة بعض عناصرها.
كان موقف الولايات المتحدة وقتها يستند إلى فكرة ابتكرها عدد من ضباط المخابرات الأميركية والإسرائيلية معاً، وهي تأسيس تحالف مع تيار «الإسلام السياسي المعتدل»، ومساعدته في الوصول إلى السلطة في عدد من الدول العربية، حتى يمكنه احتواء التيارات المتشددة العنيفة، التي روعت الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً بعمليات إرهابية، عقب خروج السوفييت من أفغانستان مهزومين وانهيار الاتحاد السوفييتي.
وكان في ظنهم أن الإخوان يمثلون أهم روافد هذا التيار المعتدل، والأهم أن كل التيارات المتشددة وُلدت من رحم الإخوان، وصاروا لهم بمثابة الأب الروحي، ولهم بهم علاقات ممتدة تحت الأرض، مما يُسهل للإخوان السيطرة عليهم.
وفي الوقت نفسه قال هؤلاء الضباط إن الاختلافات الفقهية بين التيارات الدينية، سوف تزرع توتراً وقلقاً وخصومات تنقلب إلى انقسامات حادة وحروب صغيرة، فتنشغل هذه المجتمعات فيها، وتستهلك قواها وطاقاتها حتى الإنهاك، فتتمتع إسرائيل بنعيم من الأمن والهدوء على حدودها وداخل الأرض المحتلة قد يدوم عقوداً. لكن التخطيط باء بفشل ذريع وخسائر هائلة.
أولاً: دخل تنظيم القاعدة وتنظيمات أخرى، مثل أنصار الشريعة، على الخط لاعباً فاعلاً في سوريا وليبيا واليمن والجزائر، ولم تفلح جماعة الإخوان في مهمتها الرئيسة وهي احتواء هؤلاء المتطرفين شديدي العنف، بل إن هذه التنظيمات نفذت عمليات خطيرة ضد المصالح الأميركية في ليبيا والجزائر واليمن.
ثانياً: تحولت ليبيا إلى سوق حر للأسلحة الثقيلة، معروض فيها ما يقرب من 22 ألف قطعة، أكثر من نصفها في حوزة هذه التنظيمات، بما فيها الصواريخ الحرارية صائدة الطائرات، وقد أسقط أحدها طائرة هليكوبتر مصرية في سيناء خلال الاشتباكات بين القوات المصرية والإرهابيين.
وقد عبَرَت قطع كثيرة من تلك الأسلحة إلى داخل مصر والجزائر، ويسهل أن تنتقل إلى أماكن أخرى وتمثل تهديداً تصعب السيطرة عليه، ويحول منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى برميل بارود مشتعل عابر للحدود.
وقد نظم مركز دراسات الوحدة العربية قبل أسبوعين، ندوة مغلقة لمدة أربعة أيام في العاصمة اللبنانية بيروت، تحت عنوان «ليبيا إلى أين؟!»، حضرها لفيف من الخبراء والمفكرين والسياسيين العرب وعدد من القيادات الليبية، وتوصلوا إلى ضرورة وجود دور مصري جزائري للسيطرة على تهريب السلاح الليبي عبر الحدود، حفاظاً على أمنهما القومي.
ثالثاً: نجاح المصريين في الإطاحة بجماعة الإخوان عن السلطة دون تنظيمات سياسية تقود ثورتهم، أثبت أن الإخوان لا يتمتعون بالثقل الشعبي الذي تصوره الأميركان فيهم، وأن الرهان عليهم هو نوع من المقامرة الخاسرة حتماً، إذ انقلب صراع الإخوان مع السلطة إلى صراع مع الدولة: سلطة وشعباً، وهو ما يجعلها غير قادرة على تنفيذ المطلوب منها.
لكن الأميركان لم يدركوا هذه الحقائق دفعة واحدة، بل بالتدريج، ولعبت دول خليجية دوراً مؤثراً مع مراكز صناعة القرار الأميركي، في تفسير المشهد العام في المنطقة والمخاطر الكامنة فيه.
وانتهت تلك المراكز إلى تعديل في تصوراتها، من التحالف مع «الإسلاميين المعتدلين» إلى التعاون مع الدولة لاستعادة الاستقرار وكبح جماح هؤلاء المتطرفين، خاصة أن الأمر انزلق في ليبيا إلى فوضى عارمة يتقاسمها ما يقرب من 16 تنظيماً مسلحاً. وواجه الأميركان السؤال الصعب: وماذا يفعلون في ليبيا؟
كانت أمامهم ثلاثة احتمالات، ما بين تدخل عسكري مباشر، أو الاعتماد على قوات حفظ سلام قوامها من دول عربية وإسلامية مجهزة بأسلحة ثقيلة ولها حق إطلاق النار، أو تحركات عسكرية داخلية شبه نظامية تدخل في حرب مع هؤلاء المتطرفين.. وكان البديل الثالث هو الحل.