المبادرات هي التي تصنع التغيير، ومشكلة المنطقة العربية أنها كانت تعاني من غياب المبادرات، ولذلك كان اللاعبون الذين يتصرفون في مصيرها، هم في معظمهم من خارج المنطقة. والمبادرات والفكر الخلاق هي التي تصنع المستقبل، فالمستقبل، كما يقال، إن لم تذهب إليه لتحقيق ما يرضيك فربما أتى إليك بما لا يستهويك.

وتمثل الخطوة السعودية الإماراتية بتشكيل تحالف استراتيجي بين البلدين، واحدة من المبادرات التي يمكن أن يكون لها دور، ليس فقط على البلدين ولكن على مصير المنطقة.

فالغياب الواضح لمراكز ثقل رئيسة في العالم العربي، أثر على العمل السياسي العربي، وأفقد المصالح والقضايا العربية الدعم والأرضية المساندة.

فواقع الحال يكشف أن أهم الدول العربية أصبحت غائبة عن الخارطة السياسية في العالم العربي، وأصبح معظم هذه الدول منهمكة بمشاكلها الداخلية، بل وحروبها الأهلية، مما أوجد فراغا استراتيجيا واضحا في المنطقة.

وكان الحديث يدور عن دور قيادي لدول مجلس التعاون الخليجي كمنظومة واحدة، لكن الخلاف الخليجي القطري أثر سلبا على دور المجلس وقدرته في التأثير على الأحداث، لأن التوجهات متباينة وغير متجانسة.

وكان التفاهم السعودي الإماراتي واضحا في مواقف البلدين من قضايا المنطقة، وللبلدين تأثير مهم من الناحية السياسية والاقتصادية، فهما الأول والثاني بالتوالي، من حيث حجم الاقتصاد في المنطقة، ويمتلكان تأثيرا إيجابيا في المنطقة، كون الأجندة السياسية للبلدين تاريخيا وحاضرا، تميل للمصالحة ودعم الدول العربية اقتصاديا، وتجنيب المنطقة الصراعات، مما يجعل قبول دورهما ممكناً إقليمياً، بل ومرحب به.

والتجربة السعودية الإماراتية قد تلعب دورا مماثلا للتحالف الفرنسي الألماني، وهو الذي شكل عنوانا للمرحلة الأوروبية بعد الحرب الباردة، فقاد هذا التحالف القاطرة الأوروبية للوحدة، وإلى دور أوروبي في النظام العالمي، يضم في مجموعه نحو نصف مليار نسمة.

كما أنه كان قوة محركة في تحالف ضخم يتجاوز القوميات والعرقيات والديانات، ليصبح محور هذه الوحدة خدمة الإنسان.

ومع اختلاف المعطيات بين الحالتين الأوروبية والخليجية، فإن الدرس السياسي في الحالة الأوروبية يبين كيف أن دولتين كانتا هما المحرك والقائدتان للتعاون الأوروبي، الذي أثمر سوقا أوروبية مشتركة ووحدة أوروبية.

والفراغ حسب نظريات الفيزياء والمنطق، لا بد أن يملأ، فإما أن تملأ الفراغ أنت أو يملأه غيرك. ووجود تنسيق بين السعودية والإمارات يعطي الفرصة لوجود لاعب محوري موثوق يملأ الفراغ.

لقد كانت الزيارة الملفتة للانتباه للوفد السعودي الثقيل، ولقاؤهم مع الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، بوجود ثلاثة وزراء مهمين هم الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية، والأمير محمد بن نايف وزير الداخلية.

والدكتور مساعد العيبان وزير الدولة الذي يوصف بأنه رجل المهمات الخاصة، يرسل إشارة واضحة بأن الهدف يتجاوز البعد التكتيكي إلى مساحة أبعد، وهو عمل استراتيجي وعميق، وقرار إنشاء لجنة عليا هو ترجمة واضحة لهذا البعد العميق في العلاقة.

ولكي ينجح هذا التحالف القوي بين البلدين، لا بد أن يكون قائما على عمل مؤسسي ومنهجي، بحيث لا يتأثر بالأشخاص أو بالمتغيرات، فهي علاقة بين بلدين لديهما تشابه كبير في تركيبتهما السياسية وأجنداتهما الخارجية وطبيعة المجتمع والثقافة.

ويمكن لهذه العلاقة أن تشهد تطويرا أكبر إذا ما تحولت إلى مشروع سياسي واقتصادي، في قرارات تمر من خلال المجالس التشريعية في البلدين، بحيث تكون هذه المجالس ضمانا لاستمرار البعد الاستراتيجي في العلاقة، بغض النظر عن أي متغيرات وقتية أو اجتهادية.

وهذا ما يميز التجربة الأوروبية التي جعلت القرارات الكبيرة تمر عبر مجالسها التشريعية واستفتاءات شعبية، وبالتالي يعطي الضمانة للاستمرارية.

ونجاح العلاقة التحالفية بين السعودية والإمارات، سوف يفتح الطريق لانضمام دول ترى في نفسها تماهيا مع الخط السياسي للبلدين، كما أنه يعزز قوة مجلس التعاون، فوجود أطراف متفاهمة ومتجانسة داخل منظومة المجلس، يعزز من دوره ولا يتناقض معه.

ولكن أيضا ليس من المنطقي أن تنتظر هاتان الدولتان أن تقوم دول المجلس بدورها. فهذا التحالف ليس من باب فرض الكفاية, ولكنه من باب الضرورة التي تفرض واقعها ومتطلباتها، ومن يراقب التحركات السياسية في المنطقة يقرأ المؤشرات مبكرا.

فدولة الإمارات استدعت سفيرها من بغداد احتجاجا على تصريحات رئيس الوزراء المالكي التي تهجم فيها على السعودية، وهذه كانت رسالة واضحة لفتت الانتباه إلى أن أبوظبي والرياض على نفس الخط، وأن من يتعرض لإحداهما فهو يتعرض للثانية.

هذا التفكير والأسلوب هو منهج عمل مجلس التعاون في فلسفته منذ تأسيسه، لكن ظروفه الحالية لا تجعله في أفضل حالاته، في حين أن التعاون بين البلدين جسد روح هذا التكاتف الخليجي. الخليجيون يعيشون في منطقة متخمة بالمشاكل والحروب والنزاعات، ومصيرهم واحد، وربما الثروات التي تمتلكها المنطقة تجعلها محل أطماع ومؤامرات خارجية.

 وهنا ينظر الخليجيون بتفاؤل كبير تجاه التحالف السعودي الإماراتي، ويرون فيه بوابة جديدة لعودة العمل الخليجي الجماعي المشترك، ولكن هذه المرة على أسس عصرية تفهم أن القوة في الاتحاد، وأن العالم يحترم القوة المبنية على العدالة والاعتدال والمصالح المشتركة.