لا يختلف اثنان في أن الديمقراطية الهندية تعتبر من أرقى الديمقراطيات الشعبية، المقرونة بالنتائج المقبولة، والتسليم الحكيم بما تفرزه صناديق الاقتراع. وقد حدث من قبل أن تولَّى حزب الشعب الهندوسي السلطة عندما فاز رئيس الوزراء فاجبايي في الانتخابات، واستطاع خلال فترة حكمه تغيير الصورة النمطية التقليدية عن حزب الشعب (بهاراتيا جاناتا) القومي الشوفيني المتعصب.
كما كان يوصف آنئذٍ، ليؤكد هذا الحكيم الهندي أن بهاراتيا جاناتا الأول ليس هو ذات الحزب الذي حكم الهند في تسعينيات القرن المنصرم، وتبعاً لذلك فإن عودة بهاراتيا جاناتا إلى الحكم اليوم لا تعني بحال من الأحوال استنساخ النموذجين السابقين.
تلك هي الهند التي نتعلم منها الحكمة وطول النظر، وإدراك معنى التحولات، والإقرار بنسبية الاجتهاد، بل الاعتراف بالفشل عند الضرورة. والشاهد أن حزب المؤتمر الوطني الهندي العتيد الذي ظل في سدة الحكم منذ عام 1947، يترجَّل تاركاً المجال لحزب الشعب الهندوسي، ليقول للقاصي والداني:
إننا معترفون بأخطائنا وتقديراتنا التي استقامت على فكرة المساعدة الاجتماعية لملايين الفقراء الهنود، وفتحت الباب لشكل من أشكال البيروقراطية الإدارية، وأفضت لتضخم ظل يتزايد بوتائر عالية، رغماً عن تدخلات الدولة وكبحها للآلية المالية المنفلتة من عقالها.
ويعترف حزب المؤتمر الوطني أيضاً بأن نظام الحماية الاجتماعية له آثاره السلبية المؤكدة على اقتصاد النماء المفتوح. لكن هذه الاعترافات الضمنية، لا تعني البتة أن سياسات بهاراتيا جاناتا المحتملة ستكون أقل وطأة على الاقتصاد الهندي، فالمخطط العام المعلن من قبل رئيس الوزراء الجديد (ناريندرا مودي)، سيطلق العنان لشكل من أشكال الرأسمالية الوحشية التي ستكون لها آثار اجتماعية مؤكدة على ملايين الفقراء.
البرنامج الانتخابي لرئيس الوزراء الجديد، جعل ملايين الشباب الهندي يصوتون لصالح بهاراتيا جاناتا، لكن هذا لا يعني أن منهج بهاراتيا جانتا سينجح بالضرورة، فاستحقاقات الهند الكبرى عاتية وعاصفة، وهي ما زالت تعاني من دوائر الفقر الكبيس، ذلك أن 70% من الهنود يعيشون بأقل من دولار واحد يومياً، فيما يعاني مليون فرد من البطالة كل شهر.
وهنالك ملايين من الذين يرزحون تحت طائلة الأمراض وسوء التغذية والأمراض. فمن المعروف أن رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي، قد اعتمد في حملته الانتخابية على الميزة النسبية التي تمتعت بها ولاية غوجارات التي حكمها منذ 12 عاماً، فقد سجل مودي أفضليات نسبية، تمثلت حصراً في التنمية الصناعية، والتعدين، وإطلاق سلسلة من المشاريع الكبرى التي أثمرت بعد جهد جهيد.
وهنا نستطيع ملامسة الميزة الخاصة للنظام الاتحادي الهندي، الذي يوسع معلب المشاركة لتنوع الأنماط التنموية والاقتصادية، ويجعل المباراة الحرة بين الولايات معياراً للمستقبل، حتى أن بعض رؤساء الولايات مال للاتجاه العام لحكومة حزب المؤتمر الوطني الهندي، وخاصة في ما يتعلق باقتصاديات الحماية الاجتماعية.
فيما ذهب رئيس ولاية غوجارات ناريندرا مودي في طريق مغاير، وقدَّم نموذجاً جاذباً لملايين الشباب الهندي المتعطش للانطلاق، وهؤلاء بجُملتهم هم من صوتوا لصالح نموذجه، وهكذا نال عن جدارة رئاسة وزراء الهند، ليكون أمام تحد كبير، وليثبت مدى قدرته على تعميم نموذج ولاية غوجارات على بقية الولايات الهندية.
هل سيكون مودي الهندي بمثابة دينغ سياو بنغ الصيني؟ وهل بوسعه إطلاق نمط اقتصادي يعمم النجاح الجزئي الذي حققه في ولايته غوجارات؟ أمامه سلسلة من التحيات الكبرى، ومنها على سبيل المثال، مدى قدرته على مكافحة التضخم، مع اجتناب انكشاف ملايين الهنود الفقراء، وهل بوسعه تعميم نموذجه الذهني التطبيقي في التنمية، مع الإبقاء على نظام الحماية الاجتماعية ذي الفاعلية والآثار الإيجابية على حياة الهنود؟
وهل ستنمو الطبقة الوسطى في عهده بذات الوتيرة الراهنة، إن سارع إلى تطبيق وصفته الرأسمالية العاتية.. أم أنها ستنحسر لتنذر بمجتمع طبقي يتفجَّر من داخله؟ وهل لدى رئيس الوزراء الراهن ما كان لسلفه المنتمي لذات الحزب، من آثار إيجابية على التوازن العام في الهند؟ أقصد رئيس الوزراء الأسبق، الشاعر والمفكر فاجبايي، الذي غير الرؤية التقليدية عن بهاراتيا جاناتا..
الحزب الذي يتحلَّق حوله الهندوس بتياراتهم العقلانية والمتعصبة معاً. ومن اللافت للنظر أن زعيم الحزب ورئيس الوزراء السابق فاجبايي، أفلح في إكساء هذا الحزب طابعاً مناقضاً لجوهره الصدامي، وذلك استنادا إلى ما تمتَّع به من كاريزما قادمة من ثقافته العميقة وشاعريته المشهودة.. غير أنه وجد نفسه في بعض الحالات مكرهاً على رغبات الراديكاليين الهندوس من دعاة «الاستئصال للإزعاج» (الأُصولي الإسلامي)..
الآن، ومع النسخة الجديدة للقيادة الهندوسية التاريخية، يمكننا النظر إلى التوقعات القادمة بناء على تجربة رئيس الوزراء الجديد، المشفوعة بالطفرة الصناعية والبنية التحتية الراسخة لولايته، بالإضافة إلى الموروث الإيجابي لبهاراتنا جاناتا، الذي سيتغير حتماً، طالما وصل إلى سدة الحكم بهذا القدر الكبير من الالتفاف الشعبي.
هند الألفية الجديدة لم تعد تلك التي قادها غاندي ونهرو، ولا تلك التي أدار شؤونها فاجبايي، بل هي هند جديدة يتطلع فيها ملايين الشباب لمستقبل واعد، فالمطالب لم تعد متواضعة، والتحليق صوب الأعلى صفة مُناجزةٍ وتحدٍ كبيرين، ولا أعتقد أن رئيس الوزراء مودي سيخيّب ظن ناخبيه، خاصة وأن لديه تجربة ناجحة في غوجارات، وأنه وصل إلى سن الحكمة، وخرج من معطف الحكيم فاجبايي، وقبل هذا وذاك من بيئة الهند الشعبية الفقيرة، مكافحاً منذ نعومة أظفاره، ومناجزاً للمستقبل بإرادة لا تلين.