لا يستطيع أحد أن يقفز عن حقيقة وقوع ما بات يُعرف بـ«المصالحات» أو حالات «الهدنة»، في مناطق عدة مُختلفة في سوريا، كانت حتى وقت قريب مناطق ساخنة في مسارات الأزمة الداخلية السورية، كما حصل في مدينة حمص القديمة، وخصوصاً في ريف دمشق القريب من المدينة، كمنطقتي القابون وبرزة وبيت سحم وببيلا.. وحتى في مناطق في ريف الزبداني، وهو الريف الشمالي الغربي لمدينة دمشق، والممتد حتى الحدود اللبنانية عند نقطة جديدة يابوس السورية والمصنع اللبنانية.
فالمصالحات، أو عمليات «الهدنة»، وبغض النظر عن موقف البعض منها، أو تَحَفُظُه عليها، أو تقديره لمحتواها، وعن تفاصيلها وحيثياتها، والأطراف المجتمعية التي قامت بإنجازها وأدوارها، فإنها باتت وكأنها مطلب عند عدد غير قليل من الناس، خصوصاً بعد فترات طويلة من التهجير والتشرد والضياع القسري.
ووقوع أنماط جديدة من الأزمات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية في حياة الناس، والتي لا يلامسها ولا يشعر بها إلا من عاش ويعيش تفاصيلها اليومية على أرض الواقع. فملامسة الواقع تختلف كلياً عن قراءة الواقع ذاته من بعيد، دون الشعور بلسعاته.
إن الناس تبحث الآن عن حل للمشاكل المستعصية التي تعانيها على أرض الواقع، بجانبها المتعلق بالخلاص من حالة التهجير والعودة للبيوت والدور والمنازل، حتى لو كانت «حيطان وسقف» على حد تعبير الكثير منهم، للخروج من المأساة الواقعة على رؤوس الناس، وهو أمر يجب أن يدركه الجميع. فالناس «استوت» على حد تعبير المثل الشعبي المحلي، كما تبحث عن الخلاص من أزماتها الاقتصادية المعيشية التي باتت تطبق على الجميع بآثارها وتداعياتها.
مخيم اليرموك، عاصمة الشتات الفلسطيني، والواقع إلى الجنوب قليلاً من مدينة دمشق والملامس لها تماماً، هو المنطقة الأكثر اكتظاظاً من ناحية الحجم السكاني قبل محنته الأخيرة، ما زال إلى الآن عملياً (ونقول عملياً) خارج خط المصالحات، رغم وقوع مصالحات في مناطق محيطه به، وعودة المهجرين التدريجية لمنازلهم ومواقع سكناهم، ورغم الحديث المُتكرر والمحاولات التي تمت من قبل جهات عدة لتحقيق تلك المصالحة.
ومنها محاولات من جهاتٍ فلسطينية من فصائل التحالف المؤيد للحكومة السورية، ومن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية. ومنها جهات مجتمعية فلسطينية مستقلة قولاً وحقيقيةً، ومنها محاولات الوفد الرسمي الفلسطيني الذي وصل إلى دمشق بمتوالية من الزيارات، كان آخرها قبل أسبوعٍ مضى، وهي الزيارة التي أفضت لنتيجة واحدة وإن كانت غير مُعلنة بشكلٍ واضح.
وقد سمعتها شخصياً وعلى لسان البعض من أعضاء الوفد، وفحواها أن الحالة الفلسطينية بكل ألوانها السياسية باتت عاجزة عن تقديم حلولٍ لمحنة مخيم اليرموك، وأنها «وَضَعَت أمر اليرموك وحل أزمته في يد الدولة السورية»، في ظل عجزها عن تحقيق حلول للمحنة التي بات يعانيها أبناء وعموم مواطني مخيم اليرموك.
وتعدادهم يصل لنحو ربع مليون مواطن فلسطيني، باتت غالبيتهم مُهجرة على قوس واسع داخل مدينة دمشق، وبعضهم غادر البلد نحو دياسبورا المنافي من جديد على امتداد أصقاع المعمورة، ولم يتبق منهم داخل اليرموك سوى العدد القليل، الذي لا يتجاوز 20 ألفاً نصفهم من السوريين أصلاً.
عملية استعصاء المصالحات في مخيم اليرموك، تبدو وكأنها نتيجة لعدة أسباب، أولها أن مُختلف الأطراف تريد استثمار ورقة اليرموك حتى آخر لحظة على حساب الدم الفلسطيني، فهي أطراف ترى أن ورقة اليرموك مُربحة ورائجة للتداول في سوق الأزمة السورية.
وهذا التقدير ليس شخصيا من قبل كاتب هذه السطور، بل هو تقدير عموم الفصائل والقوى الفلسطينية، ومنها بالذات فصائل منظمة التحرير، وعلى رأسها حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وثانيها، أن مختلف الأطراف تريد إدامة الحالة في مخيم اليرموك على ما هي عليه، ما دامت الأطراف إياها لم تتخذ القرار الحاسم بشأنه من ناحية تصعيد الوضع بهذا الاتجاه أو ذاك.
وثالثها أن المراهنات ما زالت سيدة الموقف، وتحديداً عند بعض الأطراف المعنية والفاعلة في أزمة مخيم اليرموك.. والنتيجة أن محنة مخيم اليرموك، قد تستمر لفترات طويلة، فيما أبناء اليرموك وأهاليه من عموم اللاجئين الفلسطينيين والمواطنين السوريين، هائمون يعانون من التهجير والفاقة.
وقد نجد أنفسنا (إذا استمرت المحنة والتهجير) أمام لحظة قد لا يتبقى فيها على أرض سوريا، سوى العدد القليل من أبناء اليرموك ومن أبناء اللاجئين الفلسطينيين، الذين بات النزوح حالة مفضلة لدى قطاعات متزايدة منهم، نحو جهات المعمورة الأربع..