ما الذي جرى في بر مصر المحروسة في الأيام القليلة المنصرمة؟ هل هي انتخابات رئاسية تقليدية أم فصل من فصول دهاء التاريخ الذي يحتاج إلى عمق ورصانة في رصده وتحليله؟
قطعاً أن فوز المرشح الرئاسي المشير عبد الفتاح السيسي برئاسة مصر، وبأصوات ما يقارب 24 مليوناً من الناخبين، لهو حدث جلل بكل تأكيد وتحليل.
والأمر هنا لا يكتسب ميزته من ارتفاع نسبة المصوتين لرجل واحد فقط، رغم أنه حاز على عدد يساوي أعداد الذين صوتوا في جولة الإعادة الثانية في انتخابات 2012 للمرشحين معاً، أي محمد مرسي وأحمد شفيق.. ما الذي يجعل هذا الاختيار مفارقاً إذاً؟
دون تهوين أو تهويل، لأنه انتخاب حر ديمقراطي حقيقي، جرى برسم المواطنة المصرية الحقيقية، ولم يجر برسم طائفي ديني مذهبي، ولا باستلاب خطاب عاطفي دعوي غير عقلاني، كما أنه باعد بينه وبين اللعب على وتر الضائقة المالية التي يعاني منها ملايين المصريين البسطاء.
الذين صوتوا للسيسي نزعوا عنهم رداء عثمان الديني، إن جاز التعبير ذاك، الذي عزفت عليه جماعة الإخوان المسلمين منذ اختطافهم لثورة 25 يناير، وهم أنفسهم الذين قدر لهم التصويت بحرية كاملة، بعيداً عن ربقة العبودية الاقتصادية التي حدثت في الاستفتاءات والانتخابات المصرية طوال الأعوام الثلاثة المنصرمة، ولهذا لم يرهنوا إرادتهم أو يقيدوا أصواتهم مقابل حفنة جنيهات أو بضعة صناديق من الزيت والسكر والطعام المعلب.
لقد جزنا غمار انتخابات رئاسية ديمقراطية، في الغالب هي الأولى في تاريخ مصر الحديث في شفافيتها ونزاهتها، وباعتراف المراقبين الأوروبيين وبعثة جامعة الدول العربية، وكلاهما أقر بأن هامش الأخطاء أو التجاوزات لا يعكر صفو تلك الانتخابات أو يجعل شائبة تشوبها، ولهذا فإن الفائز الحقيقي هنا وقبل السيسي، هو عملية التحول الديمقراطي في مصر.
أسئلة عدة تطرحها الانتخابات الرئاسية المصرية، وربما تحتاج إلى مقالات عدة لا مقال واحد، لعل أولها؛ هل كان من الممكن أن تزيد نسبة المصوتين للسيسي عن هذا الحد؟ للأسف هناك الملايين الذين تواكلوا واعتبروا أن الفوز محسوم، وهناك المغتربون الذين دفعوا ثمن سوء التنظيم الإداري، وهذا يعني أن المشهد الانتخابي المصري بشكل عام في قادمات الأيام، يحتاج إلى ترتيبات وتدابير خاصة، لدفعهم بعقلانية لا عشوائية إلى طريق الصناديق، وخاصة في ظل انتخابات برلمانية قادمة ومهمة جداً.
على أن السؤال الذي يدهشنا جميعاً؛ ما الذي جرى خلال عامين فقط في مصر وغيّر دفة الأحداث وبدل عجلة التاريخ، من التصويت للإخوان وجماعة الإسلام السياسي إلى التصويت للسيسي رمز الوطنية وابن المؤسسة العسكرية المصرية؟ أليس في المشهد تضاد غريب؟
الشاهد أننا إذا نظرنا إلى الذين خرجوا على الرئيس مبارك في 25 يناير، ووفرنا الأبعاد الخارجية للمؤامرة التي تعرضت لها مصر وبقية دول الربيع العربي، نجد أن الشعارات التي رفعوها طوال ثمانية عشر يوماً، كانت تتمحور حول الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والعيش.
وجميعها بعيدة كل البعد عن الإفرازات المثيرة التي رأيناها لاحقاً، وتجلت في العودة إلى زمن التراثات الانغلاقية والانسدادات التاريخية. فعوضاً عن فصائل التنوير قفزت جماعات الظلام والراديكالية على المشهد، وصولاً إلى الفوز المشكوك فيه لمحمد مرسي بالرئاسة..
ما الذي جرى إذاً؟ أفضل من قدم جواباً لفهم صيرورة الأحداث في العالم العربي أخيراً، وعن حق، هو المفكر السوري التنويري هاشم صالح، في كتابه الأخير «الانتفاضات العربية.. على ضوء فلسفة التاريخ».
ومن دون تطويل ممل، فإن الرجل يذهب إلى أن دخول العرب في المرحلة الأصولية السلفية - الإخوانية بسب الربيع العربي، لا يعني انتصار الأصولية بل بداية انحسارها، وهذا ما يدعوه الفيلسوف الألماني الكبير «هيغل» بمصطلح شهير هو: «مكر العقل أو مكر التاريخ».
وكلمة «مكر» مستخدمة هنا بالمعنى الإيجابي لا السلبي، تماماً كما في الآية الكريمة: ((ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)). ما معنى ذلك في قصة إخوان مصر وتيار الإسلام السياسي فيها وصولاً إلى فوز السيسي الساحق الماحق؟ المعنى والمبنى هو أن العقل يحقق أهدافه في التاريخ أحياناً عن طريق استخدام أدوات لا تخطر على البال، أي استخدام القوى السلبية المضادة لحركة التقدم، من أجل التقدم ذاته، والتاريخ يحتاج أحياناً لتلك القوى لكي يحقق أهدافه العليا أو بعيدة المدى.
من هنا يحق لنا أن نتساءل؛ هل كان للتاريخ الأصولي الراديكالي المكبوت أن ينفجر طارداً كل ما في داخله من احتقانات تراثية فكرية وصديد طائفي، وجهالة علمية، وكراهية فنية، ورفض للآخر؟ وهل هذا ما جرى في بر مصر المحروسة طوال العامين الماضيين ولم يقدر إدراكه إلا للمفكرين أصحاب العمق والرؤية؟
يمكن القطع بأن التاريخ العربي والإسلامي، لا في مصر فقط بل في بقية أرجاء الوطن العربي، بدأ يتقيأ كل رواسبه التاريخية المتراكم بعضها فوق بعض منذ قرون، ولهذا فإن ما بدا لنا جميعاً عودة تاريخية إلى الوراء، لم يكن إلا حركة تاريخية تكتيكية، استعداداً لانطلاقة استراتيجية تمثل نقطة تقدم مفصلية في المسار العام لحركة التاريخ في عالمنا العربي.
هل يدرك الإخوان مسار التاريخ ومكره أم يصرون على الانتحار العقلي، حتى بعد رؤيتهم للفوز الشعبوي والنهضوي والنخبوي للرئيس السيسي؟ اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون!