كانوا جلوسا على مقهى شهير وسط القاهرة، مجموعة من الأصدقاء، صحفيون ومهندسون وأطباء ومحاسبون ومحامون، يلتقون أسبوعيا بعد صلاة الجمعة، وراحوا يتحدثون عن نتيجة الانتخابات الرئاسية واكتساح عبد الفتاح السيسي لها بدرجة لم يتوقعوها.
إذ كانت تقديراتهم تتراوح بين سبعين إلى خمسة وسبعين في المائة، وفجأة هلّ عليهم صديق عابسا «مزرود» الوجه يكاد يخرج من هدومه، كما لو كان قادما من خناقة بلدي..
هو محاسب قديم هاجر إلى بريطانيا وعاش فيها عشرين عاما، وعاد قبل ثورة يناير بخمس سنوات بعد إحالته إلى المعاش، إذ قتله الحنين إلى المحروسة وأهلها وأصحابه، وهو خفيض الصوت أقرب إلى الهمس، ويمكن أن تقول عليه «لورد إنجليزي» في ثياب مصرية.
صدمهم المشهد، وسألوه بلهفة، فروى حادثا إرهابيا نجا منه بالمصادفة، إذ كان مارا بسيارته في شارع رئيسي وبجواره دراجة بخارية، لم يكد يسبقها بحوالي عشرين مترا، حتى انفجرت وتطايرت أشلاء راكبها في الهواء، وتهاوى زجاج السيارة الخلفي من تأثير الانفجار.
وقف مرتعبا لا يفهم ماذا حدث، تجمع المارة وجاءت دورية الشرطة، فعرف أن راكب الدراجة انفجرت فيه قنبلتان، ويبدو أنه كان متوجها بهما إلى كمين شرطة أو قسم بوليس.
قال صحفي من الشلة: جاءني الخبر منذ قليل، هو طالب في جامعة الأزهر، والقنبلتان بدائيتان صناعة محلية، وكان في طريقه إلى ميدان رابعة. هدأوا من خاطر صاحبهم وحاولوا التخفيف عنه، لكن أسئلة ملحة اقتحمت عقولهم وطرحت نفسها بصوت عال: ما الذي يمكن أن يفعله السيسي في مجتمع مأزوم بشدة، ومنفلت نسبيا، وثائر إلى حد العبث؟ ولو فشل لا قدر الله كيف يكون حال أهل مصر؟!
قال أحدهم: فعلا يمكن أن نصف مهمة السيسي بأنها في غاية الصعوبة، ولن تشفع له الشعبية الجارفة التي يتمتع بها.
رد الصحفي: أتصور أن لها جانبين، الأول: عاجل يصب فيه جل اهتمامه على تخفيف معاناة الناس في حياتهم اليومية، والأمن يأتي على رأس الأولوية، فلا استثمار ولا عمل ولا سياحة ولا مشروعات جديدة دون استقرار أمني، وهو ما تعمل الجماعة على حرمان مصر منه، وأتصور أن الرئيس السيسي سيتولى ملف الأمن بنفسه ومعه وزير الداخلية ووزير الدفاع، وهذه معلومات..
وبالتوازي سيعمل على تخفيف أزمات المواطنين من رغيف عيش وعلاج وأسعار ملتهبة وانقطاع للكهرباء وضبط المرور.. الخ، وقطعا لن يحل هذه المشكلات لا في مائة يوم ولا بضعة أشهر، وإنما يجب أن تظهر له بصمات واضحة تمنح الناس أملا في حلول قادمة.
قاطعه طبيب قلب شهير: هذا ليس كافيا، لا بد أن يُعلن مخططا متكاملا للتخلص من هذه المشكلات على مدى أطول، لا مجرد إجراءات لمطاردتها فقط كما نفعل منذ أربعين سنة، فتتفاقم بالتدريج.
قال محام منهم: عنده مهمة أكثر خطورة على المدى المتوسط، وهي إعادة بناء الدولة المصرية على قواعد قانونية قوية من العدل والحرية والمساواة، فمصر الحديثة منذ أسسها محمد علي باشا وهي دولة امتيازات واستثناءات، ولم يتمتع أبناؤها بالعدل والمساواة إلا في عصر جمال عبد الناصر نسبيا، وهو عدل ومساواة لم يفرضهما القانون بقدر ما فرضهما انحياز الرئيس ناصر للفقراء والفئات الأقل دخلا.
قال مهندس اتصالات من الحاضرين: إلغاء التوريث في الوظائف لا يقل أهمية، فلم يكن حسني مبارك فقط هو الذي يريد توريث ابنه، فأغلب العاملين في مؤسسات الدولة المصرية وشركاتها يعملون على تعيين أبنائهم وأقاربهم فيها، والأهم هو العدالة في شغل الوظائف العامة، لا محاسيب ولا كوتة للعسكريين والقضاة وضباط الشرطة وأساتذة الجامعات.
وبالطبع الدستور هو حجر الزاوية في تأسيس مصر الحديثة ومؤسساتها القوية، وكما أُعيدت الصياغة في مفهوم علاقة المواطن بالدولة حقوقا وواجبات، ينتظر المصريون قوانين جديدة على الفلسفة الجديدة.
وانتهى الحوار بينهم إلى رأي أجمعوا عليه، وهو أن المصريين في حاجة إلى نظام عام جديد، يستثمر طاقاتهم البشرية ويدير مواردهم العامة بكفاءة عالية، ويوزع الثروة والسلطة بينهم بقواعد أقرب للعدالة، نظام يُمكنهم من تنمية مستدامة ترفع مستوى معيشتهم وتحقق لهم جودة في الحياة.
هذه هي المهمة الحقيقية للرئيس السيسي، وإذا مضى على أهدافها وقطع فيها شوطا معقولا سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، أو سيكون مجرد رئيس في تاريخ مصر، وعليه أن يختار.. وبالقطع سيقف في طريقه أصحاب الامتيازات والاستثناءات وهم يملكون الثروة والتأثير.
وسوف يستميتون في الدفاع عنها، لكنه لن يخوض غمار هذه الحرب منفردا أو مع قلة من المحاسيب، وإنما مع شعبه الذي يقف إلى جواره، وهذه فرصة نادرة.