يصعب توصيف الإرهاب العالمي الذي يتجول بين القارات، توصيفاً نمطياً واضح المعالم، خصوصاً إذا عرفنا أن روافد هذا النمط متعددة، من التعصُّب المقرون بالاستيهامات والعنف المجاني.. منها ما هو إيديولوجي يتأسَّى بالدين، والدين النابع من صفاء المثال براء منه، ومنها ما هو نفسي سيكوباتي قادم من بيئات فقر وإحباط وحيرة تارة، أو بيئات فجور مالي وانحلالات خلقية أرستقراطية جاهلة أحايين أخرى.

كما أن الظاهرة لا تقف عند تخوم المسلمين بحسب السائد المُعاين، بل تجد لها حضوراً موازياً في عوالم الأديان والملل والنحل والقوميات المقرونة بالشوفينية أحايين أخرى، كما هي حال الجماعات الطُّهرانية الأنجليكانية في الولايات المتحدة، وامتداداتها المعروفة في عديد الفرق والمذاهب المسيحية ذات الجذور البروتستانتية المتعصبة، أو الفضاءات القومية التي تستعيد النازية العرقية كما نلاحظ على خطّي يوغسلافيا السابقة وأوكرانيا الراهنة.

أما الجماعات الصهيونية اليهودية القائلة بحتمية المعركة الكبرى بين معتنقي الأديان، فحديث أصوليتهم الدينية المقرونة بإرهاب الدولة يطول، فهم كبار مبرري ومشعلي ثقافة حرب النجوم الريغانية، النابعة في بعدها الاستيهامي الديني من عقيدة الحرب الهرمجدونية الكبرى، وهم بالذات من يقف وراء نظرية الشرق الأوسط الكبير، والفوضى البناءة، والمبادآت العسكرية الاستراتيجية، وتوسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً، بل والتماهي السلبي التام مع إرهاب اليهودية الصهيونية في دولة إسرائيل الطارئة على التاريخ والجغرافيا، فهذه الدولة بحسب مؤيديها، كانت وستظل المعيار المطلق للتعامل مع العرب والمسلمين، مما لا يخفى على كل ذي لب وبصيرة.

أزعم أن ذات الغرف السرية العالمية، هي التي تقف وراء الإرهاب المنسوخ برداء ديني، سواء تمنْطق رداء الإسلام الأصولي أو المسيحية المُتصهينة، أو النزعات العرقية التي تستدعي الفاشية والنازية، وما يجاورهما من تعصبات مقرونة بالمركزيات الإثنية المزيفة.

الإسلامي الأصولي خطاب أجوف في ظاهره، وسلوك أرعن في تداعياته التراجيدية على الأرض، وما يجري اليوم في اليمن وليبيا دليل قاطع مانع على وحدة الجنون الكبير الذي يتغلَّف باسم الدين الحنيف، فيما هو عميق الغور في التقاطع الموضوعي مع النزعة الكولونيالية الجديدة، الوارثة لأسوأ تقاليد الرأسمالية التاريخية المتوحشة، مع قدر كبير من خطاب التعصب الديني.

والشاهد أن أصولية القاعديين الإسلاميين عابرة للقارات، حاضرة في كامل المشهد العربي، باعتبار أن الإسفنجة العربية المنخورة تمثل بيئة مُحفزة للقفز على السلطات والأنظمة، وصولاً إلى تعميم نموذج طالبان الأفغانية والمجاهدين الشباب الصوماليين، ومن على شاكلتهم من تنظيمات وخلايا مفخخة بالنار والبارود والقتل المجاني للعرب والمسلمين.

الروافد المتعددة للإرهاب الدولي تؤشر إلى حقيقية موضوعية تتعلق بتعدد الوجوه الإرهابية، مقابل وحدتها الموضوعية المقرونة بالتعصب.. ذلك التعصب الذي يصل إلى حد استخدام العنف، وذروته الاعتداءات التي تصل إلى حد استمراء القتل، ورفض المصالحة وزج آلاف الشباب الحائر في محرقة الموت العدمي.

الإرهابيون لا دين لهم ولا ملة.. لا يؤمنون بالعقد الاجتماعي العاقل للأمة، ولا يعتقدون بجدوى الشرعة الإنسانية الدولية.. لا يحترمون الدولة القطرية، ولا يرون أفقاً مفتوحاً لوحدة الأمة وتكاملها. يقولون بالخلافة التي تمتد من إندونيسيا إلى المغرب، ومن حوض البحر الأبيض المتوسط إلى العمق الإفريقي، ولكن دون أي منطق عقلي أو شكلي يبرر هذه الدعوة في حاضر أيامنا.

الإرهابيون يتوزعون بأشكال متعددة، ويتدثرون بأردية متنوعة، فتارة يلبسون مسوح الدولة، وطوراً يتحالفون مع الطغم العسكرية في بلدان الفساد الذي يزكم الأنوف، وحيناً يتحولون إلى مليشيات هاربة في شواهق الجبال وبطون الوديان، وطوراً يلبسون الياقات الناعمة، ويتحدثون بلغة البزنس، وغالباً ما يصدرون عن ذات النبع الخفائي الغامض لصناع الموت العالمي.

الإرهاب ظاهرة عالمية بحاجة إلى تعريف متجدد، يواكب عاصفته العابرة للقارات والشعوب والأديان. ويحتاج إلى ترهيب يبدأ بالتشخيص الدقيق، وينتهي بتجفيف منابعه الشاخصة، قبل مقاتلة عناصره الضالة من الشباب المغرر بهم.

من أراد محاربة الإرهاب فعليه أن يفتش جيوبه أولاً، وأن يلتفت إلى ما يحيط به ثانياً، وأن يسترجع منابع هذا الفعل الأثيم ومصادر تمويله ودعمه ثالثاً، وأن يناجز الخطاب المُدثِّر بالدين، من خلال تحديد مكانة الدين ودوره البناء في المجتمع.

أي حرب تشن على الإرهاب لن تجدي نفعاً إن لم تكن مقرونة بهذا التشخيص الدقيق للمنابع والموارد والطاقات السلبية الحاملة لهذا المشروع الخطير، ولن تتكلَّل بالنجاح إن لم تقترن بتوازي الدروب السالكة نحو مكافحة الإرهاب، ابتداء بالخطاب، مروراً بالمعالجات، وحتى البؤر الصانعة لمقدمات الإرهاب.

وفي ختام هذه المقاربة العابرة أو الإشارة إلى التباين الأساسي في المفهوم الاصطلاحي للإرهاب في الآداب الإنسانية، فالكلمة مقرونة لدى العقل الجمعي الأوروبي بهؤلاء الذين يمكن وصفهم بأنهم «يعيثون في الأرض فسادا»، ومن هنا جاءت الكلمة القاموسية الأوروبية terrorist، وفي المقابل يكتسي المعنى الأصلي في العربية دلالة الاستعداد لمواجهة الخصم من خلال التلويح بالقوة.. لكننا اليوم إزاء مصطلح جديد اكتسى مفهوماً عالمياً مفارقاً للمعنى الأصلي، بحسب الأدبيات القاموسية العربية وغير العربية.

لكن الأدهى والأمر من ذلك، أن الجهاز الذهني المفاهيمي الإعلامي العالمي يقرن هذه الظاهرة بالميدان فحسب، وفي هذا قدر كبير من المخاتلة.. ذلك أن المُنفذين الميدانيين لهذه الأفعال ليسوا بمعزل عن المخططين الضالعين في الترويج لهذه الظاهرة، وهؤلاء ليسوا انتحاريي الميدان، ولا هم قراصنة البحار، بل هم أمراء النبع الرهيب للإرهاب.