يُرجِع بعض العرب سلبيات أوضاعهم الراهنة إلى هزيمة 5 يونيو 1967، رغم مرور ما يُقارب نصف قرن على حدوثها، بينما الواقع العربي الراهن هو نتاج تدهورٍ متسلسل، تعيشه المنطقة العربية منذ اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات السير في المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، الذي وضعه هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر 1973، في ظلّ إدارة كسينجر للسياسة الخارجية الأميركية.

فمشروع كيسنجر مع مصر - السادات كان حلقةً في سلسلة مترابطة أوّلها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، وآخرها تعطيل كلّ نتائج حرب 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية/ العربية وتوريط أكثر من طرفٍ عربي فيها لسنواتٍ عديدة.

تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، منذ خروج مصر من الصراع العربي/ الإسرائيلي. فمن الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت عام 1975 تورّطت فيها سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية ودول عربية عدّة، إلى الحرب العراقية/ الإيرانية عام 1980، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت في 1982، إلى غزو نظام صدام لدولة الكويت صيف 1990، إلى حرب الخليج الثانية في 1991، إلى مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقية «أوسلو» في عام 1993، إلى انعكاسات هجمات سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001، إلى الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق في 2003، وإلى الحروب الإسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة في أكثر من محطّة زمنية خلال العقد الماضي، وصولاً إلى ما تشهده المنطقة الآن من صراعاتٍ وأزمات أمنية وسياسية.

فلم تكن هذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر منفصلةً عن مجرى الصراع العربي/ الصهيوني الممتد لحوالي مئة عام، ولا هي مجرّد تفاعلات داخلية عربية «الخارج» منها براء. إنّ الحقبة السياسية بعد حرب 1973 (وليست النتائج السياسية لحرب 1967) هي التي كانت الأخطر بالنسبة للعرب، لأنها أوجدت بذوراً للعديد من الأزمات القائمة الآن.

فقد كانت حرب أكتوبر درساً للغرب وإسرائيل في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر عبد الناصر عام 1967، والقوة الإسرائيلية الهائلة والمتفوقة في المجالات كلّها.. هي عناصر لم تمنع حدوث «نصر أكتوبر 1973»، ولا ضمان عدم استخدام النفط العربي كسلاح في الصراع مع إسرائيل ومن يساندها، ممّا دفع أميركا وبعض الدول الأوروبية لإعادة حساباتها في المنطقة، وتأسيس نواة ما يُعرف اليوم بـ«مجموعة الدول الثماني»، التي كان تأسيسها عام 1974 من خمس دول، مرتبطاً بحظر تصدير النفط إلى الغرب عام 1973.

إنّ المنطقة العربية انتقلت من حال النتائج الإيجابية لحرب 1973؛ بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وظهور القوة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، ثمّ القرار الذي أعلنته الأمم المتحدة بـ«مساواة الصهيونية بالعنصرية».. فإذا بها تنتقل من هذه الإيجابيات الدولية، ومن حال التضامن العربي الفعّال.. إلى إشعال الحروب العربية/ العربية، والحرب العراقية/ الإيرانية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة. فكانت نتائج تلك المرحلة ليست في تعطيل دور مصر العربي فقط، بل بفتح الأبواب العربية كلّها لحروب داخلية وحدودية واختلال الجسم العربي بأسره.

أمّا هزيمة العام 1967 فقد كانت سبباً مهمّاً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية، حيث وضع عبد الناصر حينها الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدوّ الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمّة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من أولويّةٍ أعطاها ناصر لاستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة، والتصالح مع الدول العربية كلّها، والسعي لتوظيف كلّ طاقات الأمّة من أجل تحرير الأراضي المحتلة وإعادة بناء القوات المسلحة المصرية، التي قامت فعلاً بحرب الاستنزاف أولاً، ثمّ بحرب عبور قناة السويس.

لكن هذه الدروس الهامّة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر وبعد حرب 1973، إذ عانت الأمّة العربية، وما زالت تعاني، من انعدام التضامن العربي، ومن انقساماتٍ وصراعات بين حكوماتٍ وشعوب، ومن هشاشة البناء الداخلي، ممّا سهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها، ودفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التأزّم والتخلّف والسيطرة الأجنبية.

وبمقدار ما تألّم العرب، منذ توقيع المعاهدة المصرية مع إسرائيل، بسبب تهميشٍ دور مصر العربي، بقدر ما يأملون اليوم بعودة مصر لدورها الريادي، وفي ذاكرتهم حقبة إيجابية ناصعة، هي حقبة جمال عبد الناصر الذي حوّل هزيمة 1967 إلى مدخلٍ لبناء مصر على أسسٍ سليمة في المجالات كلّها.

الأمَّة العربية تحصد الآن نتائج سياسات بعض الحكّام الفاسدين، في ظل اشتعال دور الطائفيين والمذهبيين والمتطرّفين العاملين على تقطيع أوصال كلّ بلدٍ عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية.

إنّ الضعف الراهن في جسم الأمّة العربية هو من ضعف قلبها مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً في قوالب فكرية جامدة، يفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد. وعسى أن تشهد مصر قريباً ما يجعلها تستقرّ سياسياً وأمنياً، وتتقدّم اقتصادياً واجتماعياً، وأن يكون ذلك كله متزامناً مع تحرّرها من كل القيود الخارجية، ومع استعادة دورها العربي المنشود.