هي «ديمة»، شابة في عمر الورود، من مواليد مخيم اليرموك عام 1987، سليلة عائلة فلسطينية لاجئة إلى سوريا من مدينة حيفا عام النكبة، عائلة تحمل رائحة وعبق فلسطين، وزعترها وزيتونها.. عائلة تنتمي لعامة الناس وللشرائح الشعبية، التي أضنتها الحياة في مشوارها الصعب والمُتخم بضنك الحياة.
«ديمة»، وكما نقول بالمفردات الفلسطينية المتداولة، هي أخت الرجال، من فلسطينيي سوريا، وبالتحديد من فلسطينيي مخيم اليرموك، ومن حارة الفدائية، وحارة الشهيد مفلح السالم، وهي المنطقة المُدمرة تدميراً كاملاً في المربع الأول من مخيم اليرموك.
«ديمة» صغيرة في عمرها، كبيرة في أدائها وحُسنِ تصرفها، ورائعة في فرادة تصميمها. حطت أقدامها قبل أيامٍ قليلة، وتحديداً يوم الرابع والعشرين من مايو 2014، على الأرض الأوربية في إيطاليا، ومعها صغيرتها «لين»، ضمن مجموعة من فلسطينيي سوريا في طريقهم نحو السويد، بعد أن ضاقت بهم دنيا العرب على اتساعها، في رحلة أليمة..
ومحفوفة بالمخاطر، تختصر بين ثناياها تراجيديا مأساوية لـ«لاجئين يبحثون عن لجوء جديد»، بين هجرة قسرية للأجداد عام نكبة فلسطين، من حيفا ويافا وعكا وصفد واللد والرملة وطبريا والناصرة، إلى سوريا ولبنان والأردن..
وهجرة طوعية اختارها الأحفاد كونها فسحة أمل وحيدة للهروب من الواقع المرير، تحت وطأة الظروف الصعبة المحيطة بهم، في معمعان أزمة طاحنة أكلت الأخضر واليابس، وحيث القادم المجهول، فتقطّعت بهم السبل بين ميتٍ وبين معتقلٍ وبين منفيّ، وبين عابرٍ للبحار على ظهور قواربٍ ابتلع البحر الأبيض المتوسط خلال الشهور الماضية بعضاً منها، وعلى متنها شبان في ريعان العمر، وعائلات وأسر فلسطينية منكوبة..
حيث بات اللاجئ الفلسطيني في سوريا، المنسي في أزمة طاحنة، تناسوه ونسوه، فمن له القدرة على استيعاب صرخاتِ قهره! ومن له القدرة على استيعاب كارثة القارب الذي تحطم قبل فترة قرب جزيرة «لامبيدوزا» على مسافات قصيرة من الشواطئ الإيطالية، وقد مات نحو 200 فلسطيني من لاجئي سوريا، ولم يطلق أحد في العالم صرخة مدوية، ولا صرخة بسيطة من أجل هؤلاء الضحايا المنسيين!
ديمة واحدة من آلاف مؤلفة من لاجئي فلسطين، وحدها «ديمة» وصغيرتها «لين» من أسرتها كانت ترافقها، عبرت عُباب البحر على ظهر قاربٍ مُتهالك، مع مجموعة صغيرة من فلسطينيي سوريا، في اتجاه أصقاع المعمورة الأربعة، لتجتاز محنة النكبة الجديدة لفلسطينيي سوريا.
وصلت «ديمة» وصغيرتها «لين» إلى المنطقة الاسكندنافية قبل أيام، من دون زوجها الذي ما زال ينتظر اللحاق بها، بعد تحدٍّ كبير، هو تحدي الإنسان وصراعه من أجل الحياة والكرامة والأمان والخبز والورد والحرية، بعد أن تم تشريد أغلبية مواطني مخيم اليرموك من فلسطينيي سوريا، وتهجيرهم في نكبة ثانية كانت أقسى وأشد مرارة وعلقماً من نكبة العام 1948، عندما خرج الجزء الأكبر من آبائنا وأجدادنا تائهين ضائعين، مجروحين ومكلومين من بلادنا فلسطين، جنة الأرض، وزينة الدنيا وبلاد العالم قاطبة.
ولكن، رُبَ سؤالٍ يُطرح؛ هل نَلُومُ من هاجر واعتلى البحار من لاجئي فلسطين في سوريا؟ هل نوجه الاتهامات السَهلَةِ لهم، ونكيل في حقهم كل التهم، أقلها أنهم ابتعدوا عن فلسطين ونسوها؟!
كلا، لن نكون مُتجبرين في إجابتنا، فاللاجئ الفلسطيني في سوريا لا يلام عندما يسعى للهجرة إلى أصقاع المعمورة الأربعة، فالمواطن السوري في نهاية المطاف ينتقل في اتجاه اللجوء إلى أحياء مدينته، وإلى ضيعته أو قريته داخل سوريا، وعلى أراضيها المترامية الأطراف، وخياراته مفتوحة، أما اللاجئ الفلسطيني فخياراته محدودة، والمجهول قد يكون في انتظاره، ولعنة وثيقة السفر تلاحقه من مكان لآخر.
الفارق بين اللاجئين الفلسطينيين وبين الجميع من لاجئي العالم ونازحيه، هو أن الشعب الفلسطيني ُطرد من أرضه طرداً واقتلاعاً وترحيلاً قسرياً، بينما الآخرون لم يفقدوا أوطانهم، حيث إن رحلتهم إلى التيه داخل أوطانهم وحتى خارجها، ستبقى قصيره ومحدودة الفترة الزمنية مهما طالت، أما رحلة التيه الفلسطينية فمستمرة نكبة تلو نكبة، وهنا يكمن عُمق المأساة وجرحها الغائر.
الرحيل الإرادي إلى المجهول، أراده البعض ويريده من تآمر على فلسطينيي سوريا، أن يكون تلبية للنداء الساحر لقتل حقيقة الفلسطينيين ودفنها هناك، وشطب حياتهم الماضية من أجل ميلاد معتوه في بلاد لا يحسن الواحد منّا فيها سوى العيش أكلاً وشرباً وهواء. ومع هذا، فإن اللاجئين الفلسطينيين الذين غادروا سوريا تحت ظروفٍ قاهرة، لن ينسوا بلادهم ووطنهم الأزلي..
وكما قال أحد هؤلاء اللاجئين عندما وصل من مخيم اليرموك إلى الدنمارك قبل أيام أيضاً: «نحن لسنا في هذه الدنيا بخالدين، لكن أجيالنا ستولد من جديد في الوطن، ودياسبورا المنافي والشتات، ولن يموت الحلم بوطن ما زال وسيبقى اسمه فلسطين».