قال مندفعاً: "أنا لما أشوف فتاة ماشية لوحدها... عقلي يتوقف عن التفكير إلا فيها فقط، ولا أعمل حسابا للناس، لأنني لا أراهم". وقال آخر: "يا باشا لما البنت تخرج في ملابس مكشوفة وانا عاطل وغير قادر على الزواج، من الطبيعي أن أعاكسها وأمد يدي عليها". قال ثالث: البنات هي السبب، ماشية ولا راقصة في شارع عمومي.

هذه ثلاثة اعترافات في محاضر رسمية، من ثلاثة متحرشين بالنساء في مصر، وقد يكون لها ظل من الحقيقة، وقد تكون مجرد دفاع هش عن جريمة خسيسة تنم عن انعدام النخوة عند الذين يرتكبونها. وقد نميل إلى الاعتراف الأول، بأن المتحرش بالنساء هو أقرب إلى منحرف نفسي، وهذا لا ينفي عنه المسؤولية الكاملة عن تصرفاته، مثل مدمن المخدرات.

وقد قال لي طبيب نفسي مشهور كان يعالج عددا من هؤلاء المتحرشين، وقد لجأوا إليه: هو فعلا إدمان لا يقل عن إدمان المخدرات والمسكرات، والعلاج منه يحتاج بعض الوقت، وكثيرا من الرغبة في الشفاء والإرادة في التغلب على النفس الأمارة بالسوء، ولا غرابة في أن بعضهم كان متزوجاً ولا يعاني من أي حرمان عاطفي.

فعلا تبدو قضية التحرش بالنساء من القضايا المربكة إنسانيا واجتماعيا، خاصة بعد أن تفجرت جريمة التحرش الأخيرة في ميدان التحرير في القاهرة مساء تنصيب عبد الفتاح السياسي رئيسا لمصر، وربما لم تلق جريمة تحرش في العالم اهتماما كالذي لاقته هذه الجريمة، كما لو أن التحرش مسألة مصرية يبحث لها العالم عن حل، فأصدر البيت الأبيض بيانا قلقا يعبر فيه عن صدمته مثل ملايين المصريين الذين صُدموا منها، وطالبت الأمم المتحدة بالبحث عن حلول ناجعة لتلك الجريمة الحقيرة. المدهش في الأمر أن التحرش جريمة عالمية، لا تخص دولة بعينها ولا منطقة محددة ولا ثقافة منفردة، ولا يكاد يخلو مجتمع من "وباء التحرش".

وفي تقارير عالمية جاءت سبع دول إسلامية في الترتيب الأول، على رأسها أفغانستان ومصر وباكستان والعراق، وأربع دول آسيوية تتقدمها الهند، وست دول إفريقية منها جنوب إفريقيا وغانا، وخمس أوروبية بنسب أقل على رأسها فرنسا وبريطانيا. وقد نشرت جريدة "الديلي ميل" البريطانية دراسة عن التحرش، قالت فيها إن 90% من الموظفات يعانين من التحرش الجنسي في أماكن العمل، وأن الغالبية العظمى منهن سمعن تعابير فاضحة، أو لُمِست أجزاء مثيرة من أجسادهن، وأضافت إن 10% من النساء المشاركات اعترفن بأنهن حصلن على وعود بالترقية أو زيادة الراتب مقابل التساهل العاطفي.

وأذكر أن أكثر أشكال المضايقة الجنسية انتشاراً، هو الغزل المفرط ووصف مفاتن جسد المرأة بكلمات عارية لجرهن إلى علاقة خاصة، لكن غالباً ما تؤدي هذه المضايقات إلى ترك المرأة العاملة لوظيفتها. لا تنسوا أننا نتحدث عن مجتمع مفتوح يتمتع بحرية في العلاقات، ولا يعاني من أي نوع من الكبت.

وعموما يقسم علماء النفس جريمة التحرش إلى نوعين: تحرش الشوارع وتحرش العمل، وتعاني الولايات المتحدة الأميركية الأمرّين في النوعين، ولم يصدر البيت الأبيض أي بيانات تنم عن قلقه مما يحدث، رغم خطورته.

وبالنص تقول دراسة أجرتها هيئة "آس آس اتش" مع "مؤسسة جي أف كه" على عينة من 2000 شخص على نطاق الولايات الأميركية كلها، إن 65% من النساء الأميركيات تعرضن للتحرش في الشوارع في خمسة أشهر من العام الحالي، منهن 23% طالت الأيدي العابثة أجسادهن، و20% طاردهن المتحرشون حتى بيوتهن، وأجبرت 9% على القيام بأفعال قبيحة تحت التهديد، ووصفت الدراسة 25% من المتحرشين بأنهم كارهون للنساء ويتلذذون بتعذيبهن.

وقالت بصريح العبارة: ظاهرة منتشرة على نطاق واسع، و44% من الضحايا تحت 18 سنة، و80% تحت 30 سنة. اما عن التحرش في أماكن العمل، فالجيش الأميركي يحتل الصدارة بجدارة، وقالت دراسة أجرتها جمعية الأطباء النفسيين، إن التحرش متبادل بين الجنسين، وبالقطع النساء ثلاثة أضعاف الرجال، وعموما لا تقل نسبته العامة عن 30%، وهي أعلى بنسبة 5% عن الوظائف المدنية خارج المؤسسة العسكرية.

والمدهش أن النساء أكثر قدرة من الرجال على الاستشفاء السريع من الأضرار النفسية الواقعة عليهن من جراء التحرش، ويبدو أن تجربتهن في التحرش قبل الانضمام للجيش تمنحهن خبرات عالية في التعامل مع مثل هذه الجرائم.

باختصار، "التحرش الجنسي" ظاهرة عالمية مؤثرة، سواء في الشرق ذي التقاليد والقيم والعلاقات المحكومة بأطر شرعية وقانونية، أو في الغرب ذي التقاليد الحرة والقيم المنفتحة والعلاقات خارج المؤسسة الرسمية للزواج، وهو أمر غريب ويشي بأن المشكلة ليست تخلفا وتقدما، بقدر ما هي "ثقافة" ذكورية موروثة عند المتحرشين، منذ عرف الإنسان الحرب والغزو وسبي النساء وامتلاكهن.. لا فرق بين العالم الأول والعالم الثالث، ويبدو أن العالم في حاجة إلى ثورة ثقافية في علاقة الإنسان الرجل بالإنسان المرأة.