المتغير العاصف في المشهد العراقي لم يأت من فراغ، وليس معزولاً عن الجغرافيا المكانية والسياسية العراقية خلال سنوات ما بعد سقوط نظام صدام حسين، وقد جرت الأمور على مدى سنوات المتاهة الجديدة المتجددة، على نحو أزعج أصدقاء السلطة قبل أعدائها، وتكشَّف وبالأدلة القاطعة المانعة، أن النظام الجديد لا علاقة له بمشروع المجتمع الديمقراطي المزدهر الذي طالما تغنَّت به الإدارة الأميركية.
فقد أظهرت الأيام الوجه البائس للمنطق الطائفي الاستئصالي، الرافض للوحدة الوطنية النابعة من أنساق العراق الثقافية والإثنية والتاريخية، وفي كل انعطافة انتخابية يُشهر العتاة الجدد سيوف الفتنة، كما حدث في الدورة الانتخابية السابقة التي تنافس فيها إياد علاوي مع نوري المالكي، وكانت النتيجة رفضاً مُسبقاً لمقتضيات الشفافية الانتخابية، وتعسفاً في تمكين المالكي، بوصفه الضامن الأكبر للاستيهاميين الطائفيين.
الحصاد المُر للسنوات الماضية يتجلَّى في الموت اليومي المُتنقل في المدن والقرى، كما تظهر آثاره السلبية في حالة العجز السياسي الظاهر، مما شجع ويشجع على تقسيم العراق وإدخاله في ثقب إبرة التنافي العدمي المستطير.
وما كان للمتطرفين أن ينالوا الظَّفر العسكري المفاجئ، لو لم تلتحق بهم جموع المواطنين الذين عانوا الأمرين من الإذلال والإفقار المُتعمَّد، وبهذا المعنى لا يمكن تجيير المتغير العاصف للمتطرفين فقط، كما يتم التعميم من قبل بعض الأجهزة الإعلامية المُخاتلة، بل أيضاً وضمناً على المكونات الاجتماعية العراقية، التي بادرت للقيام بفعل مناجز لنظام الأسوار المحمية في المنطقة الخضراء.
وهذا يفضي بنا إلى استنتاج مؤكد يتعلق بالاختلاف القائم بين الطائفيين والعراقيين الأسوياء، الذين يدركون أن العراق لا يمكنه أن يبقى وفياً لكيانيته وهويته التاريخية العربية الإسلامية، متى ما فقد عنصر المواطنة بوصفه الرافعة الكبرى للهوية المتواشجة لمختلف الأنساق العراقية، بالمعاني الدينية والإثنية أيضاً. لقد تم الاعتداء على هذه الهوية التاريخية الثقافية، التي شكَّلت سياجاً منيعاً لبقاء العراق العربي الإسلامي.
ولا يمكن استعادة هذه التميمة المخطوفة إلا بالعودة إلى الوئام الاجتماعي، ومحاصرة التطرف بألوانه وتمظهراته المختلفة، ذلك أن الحاضن المؤكد لأي تطرف، ينبع من الإلغاء والتهميش وثقافة الاجتثاث العقيمة.
ما كان للداعشيين وغيرهم من ميليشيات التطرف الديني، أن يحققوا لهم وجوداً فعالاً خارج الحاضن الاجتماعي الذي انخرط في مقارعة السلطة القائمة، لكونها أمْعنت في إيذاء المواطنين وقهرهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذا أمر أدركه حلفاء النظام قبل غيرهم، بل وجاهروا بالرأي الصواب، ولم يجدوا أُذناً صاغية.
ومن الجدير بالتذكير هنا، أن المتابعين للشأن العراقي يسترجعون اليوم ما كان من أمر (الصحوات) قبل حين، عندما أسهم هذا المكون الاجتماعي السُّني في مقارعة وإضعاف جماعات القاعدة، ولولا هذا المكون السني الوسطي الحكيم لما تمكن النظام من إضعاف القاعدة وتوابعها.
وفي المقابل نجد الصورة مقلوبة اليوم، لأن النظام لم يتمكن من التصالح مع المكون العشائري السني، فيما زادت خيباته الواضحة في التنمية والتطوير وتحسين أوضاع الناس، وبهذا أنجز كامل المقدمات التي تشير إلى متاهة محتملة، لا خروج منها إلا بالعودة إلى المفردات الأولى في مفهوم المصالحة الوطنية، والشراكة المجتمعية، والتخلي عن العصبيات.. أياً كان شكلها ولونها.
الرئيس الأميركي باراك أوباما، المعني بصورة استثنائية بما آلت إليه أوضاع العراق، يتخلَّى بصراحة تامة عن التدخل في الشأن العراقي، وما يَعِد به من إجراءات لا يتجاوز التشاور والانتظار، ومن غرائب الدهر أيضاً أن يتخلَّى رئيس الوزراء العراقي عن جيشه.
وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، فمجرد تصريحه بتشكيل ميليشيات من المتطوعين، هو اعتراف ضمني بالتخلي عن الجيش. المقدمات السابقة تعيدنا إلى السؤال المركزي: إلى أين يذهب العراق؟ وهل من المحتمل أن تتكرر المحنة السورية في العراق؟
خاصة وأن هنالك من يعتقدون أن المشكلة القائمة يمكن حلها بالخيار العسكري الأمني فقط؟ وهل من صالح النظام القائم أن يتراجع عن ثوابته القاتلة، مراهناً على العراق وأهله، بدلاً من الرهانات الخاسرة التي عمَّقت الانقسام الرأسي في المجتمع.. ثم تاهت في دروب الهباء، ليشمل التمزق أصدقاء الأمس.. أعداء اليوم؟
تظهر المؤشرات الجديدة أن حروب الكر والفر تستعيد زخماً غير مألوف، وأن أساليب التفخيخ والانتحار تنتقل إلى مستويات جديدة في المواجهة، وأن أرض السواد القابعة على صفيح ساخن، تعد بالمزيد من التراجيديا الدموية المُهلكة. لكن هذه الحقائق الشاخصة لا تعني فقدان الأمل في إصلاح ينبثق من الإقرار بواقع الحال أولاً.
فالسير على درب الاختيار المنطقي العاقل ثانياً، وتفعيل النظام الاتحادي الفيدرالي بجوهرية معناه ثالثاً، بحيث يتسع الوطن لمواطنيه، وملعب المشاركة للتنمية الأفقية، والشفافية للذمة المالية والإدارية المقرونة بالمأسسة، بدلاً من الفَرْدنة.
كتب ذات يوم بعيد في التاريخ، عالم التاريخ والسيكولوجيا البشرية ابن خلدون، وصفاً جميلاً عن العراق وأهله، وأذكر مما قاله أن العراق التاريخي يموج بالمتغيرات العاصفة، والتقلبات الدائمة، مُقارناً هذه الحالة بطبيعة الأرض الحافلة بالجبال الشاهقة والأغوار السحيقة، والمناخات المتعددة، والتدفقات المائية النهرية العاتية.
ولقد استوهمتُ أن ابن خلدون في ما قدَّم هذه الصفات، إنما كان يقول بلسان الحال إن العراق لا يصلح إلا باستيعاب هذا التنوُّع الكبير في أنساقه الطبيعية، المنعكسة حتماً على أهل العراق. وإذا أضفنا إلى ذلك نظريته الشهيرة في أعْمار الدول، ومركزية البُعد العصبوي في إنهاء فتوة الدولة وازدهارها، سنستوعب تماماً ما يجري في العراق، وربما في غير مكان من الأرض العربية.