يحق للإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، أن يتساءل في مثل هذا اليوم؛ هل كان 30 يونيو يوماً «للجبر الذاتي» للمصريين فقط أم للشعوب العربية قاطبة؟ ومصطلح «الجبر الذاتي»، بداية، يرجع للفيلسوف المصري الراحل الدكتور زكي نجيب محمود، ويعني حرية الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع، فالإنسان كائن مريد حر في اختيار ما يريده، وأنه من دون سائر الكائنات ليس حصيلة سلبية للعناصر الخارجية المحيطة به، بل هو مبدع خلاق يأتي بالجديد الذي يضاف إلى الوجود.
يصح جداً أن يكون 30 يونيو هو اليوم الذي أراد فيه المصريين بإرادة واعية وحرية كاملة، الخلاص من أكبر وباء كاد ألا يصيبهم وحدهم فقط، بل العالم العربي من ورائهم.. وباء الأصولية والتمذهب والتعصب. هل كان لا بد من ظهور هذا الوباء في هذا التوقيت؟ يذهب بنا أبو الجغرافيا العربية الحديثة، العالم المصري الراحل الدكتور جمال حمدان، إلى أن الحركات الإسلامية المتطرفة هي وباء دوري يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي أمام العدو الخارجي، وهي نوع من التشنج الطبيعي، بسبب عجز الجسم عن المقاومة.
هل كاد المصريون والعرب أن يدخلوا في شرنقة قاتلة، وكان 30 يونيو يوماً للخلاص العربي؟ أغلب الظن أن ذلك كذلك، لا سيما أن الإسلام السياسي الذي تستر وراء الدين طويلاً، ليس إلا ظاهرة تجسد العجز السياسي عن الفعل الذاتي الحر للخلاص من مؤامرات المتآمرين، نعم، كانت 30 يونيو ثورة المصريين، لكن الذي لا يعرفه الكثير من القراء، هو أن الخطر الذي واجهته كان أكبر وأكبر هولاً من أن تتحمله مصر بمفردها، ولولا حسابات جمعية للعرب معاً، لربما تكرر سيناريو العمل العسكري ضد مصر، كما جرى مع العراق من قبل.
ماذا عن هذا الجديد والمثير والخطر؟ أحدث التقارير التي تم الكشف عنها مؤخراً في هذا السياق، وعرف بتقرير البنتاغون لجهة مصر بعد 30 يونيو، يفيد بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان قد طلب إلى القوات المسلحة الأميركية الاستعداد لمواجهة الأمر في مصر، عبر اتخاذ قرارات عدة تبدأ بالعقوبات المتدرجة والمتصاعدة عليها، وصولاً إلى التفكير المباشر في عمل عسكري ضدها، بعد أن فشلت الإدارة الأميركية في إثناء قيادة الجيش المصري عن موقفها الرافض للتجاوب مع رغبات الإدارة الأميركية الداعمة للإخوان. وليس سراً أن عدداً من البوارج الحربية الأميركية قد اقتربت من المياه الإقليمية المصرية، وتردد أن بعضها يحمل 800 كتيبة أميركية جاهزة لعمل مسلح ضد مصر.
الجبر الذاتي العربي الذي نتحدث عن انتصاره اليوم، أدركه جنرالات البنتاغون من خلال التأكيد على أن سلاح النفط إذا تعرضت مصر لغزو عسكري، سيكون أشد وقعاً بمراحل بعيدة جداً عن ذاك الذي جرت به المقادير في السادس من أكتوبر 1973.
نقطة أخرى مهمة للغاية في حسابات الجبر الذاتي العربي، تمثلت لقادة القوات المسلحة الأميركية، ورجالات المخابرات المركزية الأميركية، ولوبي المجمع الصناعي العسكري، وهي أن عدواناً عسكرياً كهذا على مصر، من شأنه أن يعرض كل صفقات الأسلحة الأميركية إلى الدول العربية لخطر الإلغاء، وعليه ستكون الصناعة العسكرية والصادرات الأميركية منها في مهب الريح، خاصة أن روسيا والصين أصبحتا مؤهلتين وبشكل كامل لمثل هذه الصفقات، وهما تنافسان السلاح الأميركي بجدية، بل وربما تنضم لهما فرنسا أيضاً.
تقرير البنتاغون أشار كذلك إلى أن «الذات المصرية» التي حاربت إسرائيل عام 1973، لا تزال قادرة على استنهاض الهمة العربية في أوقات المحن، وذكر التقرير بالنص أنه «في مواجهة أي عمل عسكري أميركي، سيكون هناك أكثر من عشرة ملايين مصري تحت السلاح قادرين على المقاومة»، وأنه لن يكون هناك حظر للسلاح الأميركي على مصر، فغالباً ما ستفتح كل دول الحليج مستودعاتها من السلاح الأميركي لتزويد الجيش المصري به، من دون استئذان الولايات المتحدة الأميركية.
وعطفاً على تقرير البنتاغون، فإن عقولاً أميركية وأوروبية أخرى أخذت في حسبانها وحساباتها التكلفة الإجمالية لانسحاب رؤوس الأموال والاستثمارات العربية من أوروبا وأميركا، رداً على مثل هذا العدوان المحتمل، والذهاب عوضاً إلى الشرق الآسيوي، حيث روسيا الدب القائم من رقاده في تحالفه مع الصين التنين القادم، وكلاهما لا يحملان لواشنطن في السر والجهر إلا روح التحدي من جراء الكبرياء والغرور الإمبراطوريين الأميركيين.
30 يونيو يوم يستدعي التوقف أمام هذه اللحظات، التي تمثل انتصاراً حقيقياً لا وهمياً، للعرب مجتمعين، ويحتم قراءة واقع العرب الجيوسياسي، واستكشاف أوراق الضغط والقوة لدى هذه الأمة، في وقت تمضي فيه دول العالم في إطار التجمعات الكبرى لمواجهة ودرء خطر الاستراتيجيات الأميركية الساعية للهيمنة والتخريب والتفكيك.
كيف نعظم من مكاسب تلك اللحظة التنويرية في تاريخ هذه الأمة؟ هذا هو السؤال الواجبة الإجابة عنه بعد عام من تلك التجربة الرائدة مصرياً وعربياً. وفي كل الأحوال يبقى توجيه الشكر لكل الإخوة والأشقاء العرب، الذين ساندوا مصر معنوياً وأخلاقياً واقتصادياً طوال العام المنصرم، وربما حان الوقت للتطلع إلى ما بعد لحظة الجبر الذاتي التي عشناها، وللدخول في عصر بأكمله يكون للعرب والمصريين فيه القدرة الخلاقة على الاختيار السليم لمستقبلهم، في مواجهة الفوضى الخلاقة لأعدائهم.
جبر الذات العربية تمثل بأبلغ تعبير في كلمات الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة: «لو سقطت أي دولة، لا قدر الله، فالعالم العربي سيظل بخير، ولكن إذا سقطت مصر سقطت الأمة بأسرها».