هناك مخاوف مشروعة الآن على المستويين الأمني والسياسي، من ظاهرة »داعش« التي خرجت من وحل جماعات الإرهاب في سوريا، لتمتدّ إلى العراق وتهدّد مصير كيانه ومعظم دول المنطقة. لكن عنصر التهديد هنا ليس نابعاً من القوة الذاتية فقط لهذه الجماعة الإرهابية، بل أيضاً من الخلط الذي يحصل حالياً بينها وبين قوى سياسية محلّية معارضة، في كلٍّ من سوريا والعراق.
فلو لم تكن هناك أزمات سياسية داخلية لما وجدت »داعش« بيئةً مناسبة لها للتحرّك ولضمّ عددٍ من المناصرين لها، فالمشكلة الآن هي لدى من يواجه ظاهرة »داعش« كجماعة إرهابية، ويرفض معالجة أسباب انتشارها في بعض المناطق، وهي أيضاً مشكلة لدى من يراهنون على »داعش« لتوظيف أعمالها لصالح أجندات محلية أو إقليمية خاصة، بينما هم لاحقاً ضحايا لهذه الأعمال وسيحترقون بنيرانها.
تساؤلات عدة ما زالت بلا إجاباتٍ واضحة، تتعلّق بنشأة جماعة »داعش« وبمَن أوجدها ودعمها فعلاً، ولصالح أي جهة أو لخدمة أي هدف! لكن حين تتبرأ قيادة تنظيم »القاعدة« من »داعش« وممارساتها، فهذا في حدّ ذاته يوضح مستوى أعمال الإرهاب والإجرام التي تمارسها »داعش«. ومن هذه التساؤلات مثلاً: لِمَ كانت التسمية تنظيم »الدولة الإسلامية في العراق والشام« بما يعنيه ذلك من امتداد لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهي الدول المعروفة تاريخياً باسم »بلاد الشام«، وعدم ذكر تركيا أو الجزيرة العربية أو دول إسلامية وعربية أخرى، طالما أنّ الهدف هو إقامة »خلافة إسلامية«؟!
أليس لافتاً للانتباه أنّ العراق ودول »بلاد الشام« هي التي تقوم على تنوع طائفي ومذهبي وإثني أكثر من أيِّ بقعةٍ عربية أو إسلامية أخرى؟! ثمّ أليست هذه الدول هي المجاورة لـ»دولة إسرائيل« التي تسعى حكومتها الراهنة جاهدةً لاعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها كـ»دولة يهودية«؟!
أليست هناك مصلحة إسرائيلية كبيرة في تفتيت منطقة المشرق العربي أولاً إلى دويلات طائفية وإثنية، فتكون إسرائيل »الدولة الدينية اليهودية« هي الأقوى والسائدة على كل ما عداها في المنطقة؟!
أليس كافياً لمن يتشكّكون بالخلفية الإسرائيلية لهذه الجماعات الإرهابية، التي تنشط بأسماء عربية وإسلامية، أن يراجعوا ما نُشر في السنوات الأخيرة عن حجم عملاء إسرائيل من العرب والمسلمين الذين تمّ كشفهم في أكثر من مكان؟! أليس كافياً أيضاً مراجعة دور إسرائيل خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك العلاقات التي نسجتها منذ عقود مع جماعات في العراق، وهي تفعل ذلك الآن مع قوى معارضة في سوريا؟!
من المهمّ التوقّف عند ما حدث ويحدث في المنطقة العربية وخارجها من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّة دينية وشعارات إسلامية، وما يتحقّق من مصلحة إسرائيلية كانت أولاً، في مطلع عقد التسعينات، بإثارة موضوع »الخطر الإسلامي« القادم من الشرق كعدوٍّ جديد للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، ثمّ فيما نجده الآن من انقسامٍ حاد في المجتمعات العربية وصراعاتٍ أهلية ذات لون طائفي ومذهبي وإثني. فلم تكن مصادفة سياسية أن يتزامن تصنيف العرب والمسلمين في العالم كلّه - وليس الغرب وحده - كإرهابيين، طبقاً للتعبئة الإسرائيلية التي جرت في التسعينات، مع خروج أبواق التعبئة الطائفية والمذهبية والعرقية في كلّ البلاد العربية، ففي كلّ بلد عربي، بل في كلّ مدينة عربية، هناك »مسجد ضِرار« يريد القيّمون عليه إبقاءه لكن مع هدم وتقسيم كلّ ما حوله!
لقد حقق »نفخ« تنظيم »القاعدة« أهدافه بعد أحداث سبتمبر 2001، وشهدنا حروباً ومتغيّراتٍ سياسية وأمنية في أمكنة واتجاهات مختلفة، وكان الحديث عن »القاعدة« وكأنّها شبحٌ جبار يظهر ويتحرّك في أرجاء العالم كلّه، من أجل تبرير الحروب والمتغيّرات. الآن، يتكرّر المشهد نفسه مع تنظيم »داعش«، ولا نعلم بعد أين وكيف سيتمّ توظيف توأم »القاعدة«؟، لكن الممكن إدراكه هو أنّ هذه الظاهرة مصيرها الاضمحلال، فهي حركة هدم في الحاضر، لا من أجل بناء مستقبل أفضل، وهي بفكرها وممارساتها ستجعل مناصريها قبل خصومها أول من يواجهها ويحاربها، وهي قد تخدم الآن مشاريع جهاتٍ متعدّدة، لكن سيتّضح عاجلاً أم آجلاً خدمتها للمشروع الإسرائيلي فقط الذي لا يرحم أحداً غيره. حبّذا لو تكون هناك مراجعات عربية ودولية لتجارب معاصرة في العقود الثلاثة الماضية، كان البعض فيها يراهن على استخدام أطراف ضدّ أطرافٍ أخرى، فإذا بمن جرى دعمه يتحوّل إلى عدوٍّ لدود.
إنّ تنظيم »داعش« مصيره الانحسار والضمور مهما ازداد قوّةً في العدد والمال والعتاد، فهو كمثل أساليبه الانتحارية، يحمل متفجّراتٍ تطيح به وبمن حوله. لكن يبقى السؤال؛ من هم الضحايا المحتمل حدوثهم لحظة وقوع التفجير! هل هي جماعات بشرية محدودة فقط أم أوطان وشعوب ومصالح دول؟! الإجابة عند عموم العراقيين والسوريين وكل شعوب المنطقة، بأن ترفض نحر أوطانها وأنفسها معاً لصالح غايات لا تمتّ بصلة إلى حقوق فئات أو طوائف أو حتّى حكومات ومعارضات.
إنَّه »زمن إسرائيلي« ينتشر فيه وباء »الإسرائيليّات«، وتقلّ فيه المضادات الحيويّة الفكريّة والسياسيّة، وتنتقل فيه العدوى سريعاً، ويُصاب »بعض الأطبّاء« أحياناً فتجتمع العلّة في الطبيب والمريض معاً! لكن المشكلة لم تكن ولن تكون في وجود »الوباء«، بل في انعدام الحصانة والمناعة، وانعدام الرّعاية الصحيّة الفكريّة والسياسية داخل الأوطان العربيّة وبلدان العالم الإسلامي، وفي الجهل المقيت بكيفيّة الوقاية والعلاج، بل حتّى برصد أعراض مرض الانقسامات الطائفية والمذهبية.. وسهولة انتشاره!