لماذا الهند أكثر تقدماً واستقراراً من باكستان؟ قد يبدو سؤالاً في غاية البساطة وبلا معنى، لكن إذا تأملناه وأمعنا فيه الفكر، قد نفتح ملفات ملتهبة في تاريخ المسلمين، ونجيب عن سؤال أخطر ألف مرة: لماذا كل هذه الاضطرابات والانقسامات في جزء كبير من العالم الإسلامي؟
وسؤال الهند وباكستان أشبه بخط مستقيم بين نقطتين، فالهند وباكستان بدأتا رحلة الدولة الحرة المستقلة معاً، وكانتا دولة واحدة تحت الاحتلال البريطاني لمئات السنين، ثم ثارت الهند وأخرجت الإنجليز منها في صيف 1947، وقرر مسلمو الهند أن يستقلوا بدولة لهم هي باكستان، وباكستان في اللغة الأردية معناها »أرض طاهرة«. ولن ندخل في تفاصيل تاريخية نتوه فيها، ونقفز إلى السؤال: كيف شقت الهند طريقها نحو التقدم بينما انقسمت باكستان إلى دولتين، إحداهما فقيرة للغاية باسم بنغلادش، والأخرى صنعت قنبلة ذرية لكنها لم تصنع تقدماً حقيقياً في جودة حياة مواطنيها، وعاشت في انقلابات وصراعات وتدهور أمني وتفجيرات وجماعات متطرفة وعلى أبواب انقسام جديد؟
قد لا نبحث عن إجابة، لأن تنظيم داعش في العراق أجاب فعلاً بالسلاح عن السؤال البسيط، بإعلانه تأسيس دولة خلافة إسلامية في المناطق التي استولى عليها من الجيش العراقي، وبالقطع هو إعلان واقعي بتقسيم العراق، حتى لو لم تعترف به حكومات العالم.
إذن، السعي إلى السلطة باسم الخلافة الإسلامية كان سبباً رئيسياً من أسباب حالة الفوضى والاضطراب والانقسام في باكستان والعراق، ولو مددنا البصر إلى المنطقة العربية وهي التي تشغلنا بالدرجة الأولى، سنجده كامنا في أزمات طاحنة في ليبيا ومصر والجزائر وسوريا والصومال واليمن، ويحاول أن يطل برأسه داخل حدود دول أخرى.
والسؤال الصعب الذي لا يحب أصحاب الإسلام السياسي، وهم أصل هذه الاضطرابات، أن يبحثوا فيه بحثاً دون غرض: هل الخلافة من الإسلام أم هي عمل دنيوي ابتكره المسلمون للسلطة والحكم، بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم؟ هل الدولة ركن من أركان العقيدة لا سيما وهم يقولون إن الإسلام دين ودولة، كما لو أن الدولة والدين وحدة واحدة إما أن نؤمن بهما معاً أو نكفر بهما معاً؟
المدهش أن بعضاً من شيوخ هذا التيار يفتون بإجابات تناقض هذا الرأي أحياناً دون قصد، فهم يؤمنون بأن الإسلام دين ودولة بشرط أن يؤسسوا هم هذه الدولة وأن يحكموها وليس غيرهم، وهذا واضح من بيان اصدره بعض علماء المسلمين وصفوا فيه إعلان داعش للخلافة في العراق بأنه باطل شرعاً، لأنه حدث بمعزل عن أهل الحل والعقد للأمة الإسلامية من علمائها وفقهائها ومتخصصيها، وقالوا: »إن ربط مفهوم الخلافة الإسلامية بتنظيم اشتهر بين الناس بالتشديد، لا يخدم المشروع الإسلامي أبدا«.
وهذه عبارة حاكمة لم تسئ إلى الإسلام فقط بأن تصفه بأنه مجرد »مشروع«، وأي مشروع مرتبط بزمان ومكان وله بداية ونهاية، بينما الدين ممتد في الزمان والمكان، وإنما أيضاً هي تجيب عفوياً بـ»لا« عن السؤال الصعب: هل الخلافة من الإسلام؟ وتفيد بأنه لو داعش تنظيم نصف متشدد أو قليل التشدد ونال مباركة من أهل الحل والعقد، لصح إعلانه للخلافة شرعاً، أي أن مفهوم الخلافة في رأيهم لا يرتبط بشروط محددة مذكورة في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما بدرجة التشدد وموافقة رجال الدين.
وهذا شيء طبيعي ومنطقي، فلو أن الخلافة من الإسلام لكان على المسلمين في أي مكان في العالم، من أول اليابان شرقاً إلى المكسيك غرباً، أن يؤسسوا لهذه الخلافة حتى يصح دينهم.
ويبدو أن دوام الخلافة ما يقرب من 13 قرناً كاملاً، ثبت في أذهان بعض المسلمين أنها من الإسلام، مع أن هذه القرون حملت من مؤامرات وسفك دماء في صراعات على السلطة ما تفيض به الأنهار، مثل أي صراع على السلطة في أي بقعة في العالم، وهو ما ليس من الإسلام في شيء.
وحين ألغى كمال أتاتورك الخلافة بانهيار الدولة العثمانية في صيف 1924، ظهر الإسلام السياسي بعدها بسنوات، في جماعة الإخوان، واستهدف إحياء الخلافة وزعامة العالم وأستاذيته، تحت مقولة شاعت تقول: »فليس دين زال سلطانه إلا بدلت وطمست أعلامه، لما في السلطان من حراسة للدين والذود عنه ودفع الأهواء منه«، مع أن الله حسم هذه المسألة حسماً قاطعاً: (إنا نحن نزّلنا الذِّكر وإنا له لحافظون).
والمدهش أن من يراجع تاريخ الخلافة، يسهل أن يكتشف أن المعارضة لها نشأت مع ولادتها من أول لحظة، وأنها قامت في الأغلب الأعم على قوة السيف، وفي النادر على إجماع الأمة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحدث عنها أو يذكرها في حياته، ولو كانت من الإسلام لشرح للناس كل ما يتعلق بها، كما شرح لهم كل ما يتعلق بدينهم من قواعد لا لبس فيها ولا إبهام، ولم يكن ليترك أمر تلك الدولة مبهماً على المسلمين، يتقاتلون على شكلها وأسسها.. وإذا ظلت الخلافة هاجساً، سيظل الصراع مستعراً.