بمقدار ما تألّم العرب من تهميش دور مصر العربي طيلة أربعة عقود، منذ توقيع المعاهدة مع إسرائيل، بقدر ما يشدّهم الآن الحنين إلى حقبةٍ ما زالت تذكرها أجيال عربية كثيرة، وهي حقبة جمال عبد الناصر، التي يصادف يوم 23 يوليو الذكرى 62 لقيام حركته الثورية، والتي غيّرت لعقدين من الزمن مصر والمنطقة العربية.

فلقد تميّزت حقبة ناصر بحالة معاكسة تماماً لما هي عليه الآن المنطقة العربية. وكانت التفاعلات السياسية والاجتماعية التي يُحدثها ناصر في مصر تترك آثاراً إيجابية كبيرة، ليس فقط داخل البلاد العربية، بل في عموم آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية. وكان ذلك يؤدّي إلى تعزيز دور مصر وقيمة تجربتها الثورية خارج حدودها.

فقوّة ناصر كانت قي قدرته على تحريك الشارع العربي، وفي »رجع الصدى« لما يقوله ويفعله في كثيرٍ من بلدان العالم. لقد أدرك جمال عبد الناصر دور مصر الريادي في التاريخ القديم والحديث، وبأنّ مصر لا يمكن أن تعيش منعزلة عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة بالمشرق والمغرب، بينما مصر هي في موقع القلب، وبأنّ أمن مصر وتقدّمها يرتبطان بالتطوّرات التي تحدث حولها.

فلو ظهر جمال عبد الناصر في غير مصر لما استطاع أن يكون عظيماً بدوره، ولما كانت تجربته بالقيمة نفسها. فالعنصر الأهم في قيمة تجربة ناصر هو مكانها، أي مصر، وبما هي عليه مصر من موقع جغرافي يربط آسيا بإفريقيا، وشرق العرب بمغربهم، ولِما كان ـ ولا يزال ـ لهذا الموقع من أهمّية استراتيجية لكلّ من أراد الهيمنة على عموم المنطقة.

فالاختلال بتوازن مصر وبدورها يعني اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة ناصر عام 1970، وبعد معاهدة »كامب ديفيد« في العام 1979. هاهي الأمَّة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي، ممّا سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض أوطانها، ودفع بالوضع العربي كلّه نحو مزيدٍ من التشرذم والتخلّف والسيطرة الأجنبية، وممّا همّش أيضاً الصراع العربي ـ الصهيوني، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

أليس عيباً الآن اعتبار أو رؤية ما فعلته وتفعله إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في غزَّة وكأنّه »ردّة فعل«؟! أو التعامل مع العدوان والحصار على غزّة (كما كان العدوان على لبنان صيف العام 2006 ثمّ على غزّة في العامين 2008 و2012) وكأنّه صراع إسرائيل مع فصيل فلسطيني (أو لبناني)؟!

فهل أصبح الصراع العربي ـ الصهيوني مختزَلاً إلى هذا المستوى الرديء من التوصيف، بعدما جرى اختزاله أولاً بالقول إنّه الآن »صراع فلسطيني ـ إسرائيلي«، ممّا برّر نفض أيدي بعض العرب من مسؤولياتهم الوطنية والقومية والدينية؟!.

البلاد العربية تخشى اليوم على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلّين لبعض أرضها، أو من الساعين إلى السيطرة على ثرواتها ومقدّراتها. أمَّا في داخل الأوطان العربية، فالأمراض الطائفية تزداد انتشاراً والناس ينقسمون على أسس دينية ومذهبية وإثنية، لا على معايير اجتماعية وسياسية وفكرية، كما هي عادةً الظاهرة الصحّية بالمجتمعات الحديثة.

فلا انفصال أبداً بين ما هو قائم من حروب أهلية، وما تعيشه الأمَّة العربية من انقسامات طائفية وإثنية، وتفكّك في وحدة الكيانات، وبين ما هو حاصل من تخلى عن مسؤوليات قومية ووطنية تجاه الصراع العربي ـ الصهيوني، ومن تسهيل لمزيدٍ من التدخّل الأجنبي.

إنَّ التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن العروبة كهُويّة انتماء مشترك، كانت قبل عبد الناصر وستبقى بعده رغم كلّ ما يجري الآن من مظاهر التخلّي عنها، فالعروبة بمضامينها الحضارية قادرة على النهوض من جديد إذا ما توفّرت لها القيادات السليمة، وإذا ما ارتبطت الدعوة للعروبة بالبناء الدستوري السليم.

حبّذا لو يتمّ استخلاص الدروس والعبر من تجارب الماضي، بإيجابياتها وسلبياتها، وفيها ـ كما هو حال التجربة الناصرية ـ الكثير من الغايات النبيلة والسيرة النزيهة لتجربة اجتهدت وجاهدت كثيراً من أجل خدمة مصر والعرب كلّهم. العرب يأملون الآن بعودة مصر التي عرفها العرب في منتصف القرن العشرين، والتي كانت تقود نفسها وجوارها العربي والإفريقي والآسيوي في معارك التحرّر الوطني من قوى الهيمنة الأجنبية، وفي المواجهة مع إسرائيل.

العرب يأملون الآن بعودة مصر التي كان أزهرها الشريف ينشر تعاليم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف في كلّ أنحاء العالم بعيداً عن التطرّف والتعصّب وجهل الفتاوى. العرب يأملون الآن بعودة مصر التي كانت في مقدّمة دول المنطقة والرائدة لقضاياها القومية والوطنية، والحاضنة لصيغ ومؤسسات العمل العربي المشترك، والفاعلة الأولى في قرارات جامعة الدول العربية. لقد حاول البعض »التنظير« لثورة 25 يناير 2011 بأنّها ثورةٌ أيضاً على ثورة 23 يوليو، وبأنّها كانت ثورة من أجل الديمقراطية ضدّ استبداد النظام السابق وفساده، وليست ثورةً أيضاً على سياسة التبعيّة والعلاقات مع إسرائيل، والتي قزّمت دور مصر الطليعي في عموم المنطقة، وأضعفت مصر نفسها بعد أن قيّدتها منذ نهاية عقد سبعينات القرن الماضي بأغلال المعاهدات.

وتتعدّد التحليلات بشأن ما يحدث الآن في مصر، ويختلف الكثير من المصريين والعرب حول توصيف طبيعة نظام الحكم الحالي فيها، لكن يصّح القول إنّ مصر تعيش الآن حقبة »الجمهورية الرابعة«، والتي جاءت بعد »جمهورية ناصر« أولاً، ثم »جمهورية السادات ـ مبارك«، ثم »جمهورية حكم حركة الإخوان«. وهاهي المنطقة الآن تعيش مرحلة جديدة من الصراعات، ومن الاستقطابات الدولية ـ الإقليمية، في ظلّ غياب متواصل لمشروع عربي مشترك، ولإرادة عربية مشتركة، وهو أمر ينتظر وضوح التحوّل السياسي الذي يجري الآن في مصر.