عندما ورد مفهوم الاستخلاف في الأرض في القرآن الكريم، فإن هذا المفهوم الذي اقترن بآدم عليه السلام كان مشروطا ًبقواعد الجبر الإلهي الناظمة لميزان الكون والوجود والمجتمع، فالاستخلاف بهذا المعنى يقتضى العدل، والحكمة، والإنصاف، والتأمُّل، والتفكُّر، والتؤدة، وكان بمثابة رافعة أخلاقية لآدم عليه السلام، ومن يليه من أبنائه، ولم يكن مقروناً بمرجعية للحاكمية بمفهومها التاريخي الذي ورثناه، بل إنني أزعم أن مفهوم الخلافة التاريخي الإسلامي نشأ كنوع من المغايرة لمفهوم الحاكمية التي سادت امبراطوريتيْ كسرى الفارسية، وقيصر الرومانية.

وكرَّس المسلمون بعد حوارية »سقيفة بني ساعدة« مفهوم الخلافة من خلال فكرة البيعة، وتعني الإجماع على اختيار خليفة للمسلمين، واستمرت هذه الفكرة بنواميس حصانتها الأولى خلال العهد الراشدي الذي تناوب فيه الخلفاء: أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم جميعاً؛ غير أن التقليد الحميد سرعان ما تحوَّل بعد ذلك إلى ممارسة للحاكمية خارج دلالة وكُنه المُسمَّى الأول، وترسخت تقاليد المُلك الوراثي، لتستمر هذه المتوالية طوال دولتي بني أمية وبني العباس، فأصبح اسم الخليفة لا يتضمن الدلالة التاريخية الأولى للمرحلة الراشدية.

الأهم من هذا وذاك أن الخلافة كنظام للحكم لم يرد في الكتاب والسنة، الأمر الذي وضَّحه العالم الأزهري الكبير الشيخ علي عبد الرزاق قبل عقود طويلة في كتابه الهام "الإسلام وأُصول الحكم".. يومها قامت قيامة المتعصبين العدميين، وحاولوا رجم الرجل بشتى التُّهم، لكنهم لم يجدوا الحجة الدامغة، فوقعوا في مواجهة سافرة مع تيار التنوير النهضوي الشامل الذي عرفته مصر والأمة في تلك الأيام من بدايات القرن العشرين.

على مدى عقود الازدهار الأخير لتيار الدين السياسي، الذي جاء أصلاً من واقع الإخفاقات التنموية والحياتية للنظام العربي العام، ليجد البيئة المناسبة، والمقدمات المواتية لانتشاره.. في هذه العقود تبارى أنصار الدين السياسي في تحديد معالم مشروعهم الأيديولوجي السياسي، وتمايزوا في تكتيكاتهم، بل واختلفوا في أحايين كثيرة، كما يحدث الآن بين الإخوان والسلفيين، وبالمقابل تعددت مساراتهم وبرامجهم غير المعلنة حصراً.. وفي كل الأحوال ظلوا يلوِّحون بمرجعية الشريعة كما لو أنها طلسمات غير واضحة المعالم، ولعل بعض الطُهرانيين الأكثر تقطيراً في التطرف أميز من غيرهم لجهة اتساقهم مع ظاهر النصوص، واعتبار أن تلك النصوص، بحسب ما يعتدُّون به.

إنما هي نصوص جامعة لكامل المُعطى الحياتي، تحمل الجواب الناجز الشامل لسؤال الوجود والغيب معاً، وملزمة التطبيق جبراً، كما أنها تتعارض حصراً مع أي اجتهاد تشريعي بشري. ومن هنا يبدأ المأزق حول مفهوم الشريعة خارج علوم الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأسباب النزول، وفقه المقاصد، والمتغيِّر المُتجوْهِر في التحولات المجتمعية اللامتناهية.

لقد قرر هؤلاء أن الجواب الناجز على سؤال الشريعة يكمن في ما سلف من أقوال ظاهرة، وبهذا المعنى رفضوا التأويل والاجتهاد، وأداروا ظهورهم لعلم الكلام، وأقاموا صرحاً عاتياً من المقولات الحادة القطعية، وها هم يمارسونها علناً في أفغانستان والصومال والعراق وسوريا. ومن شواهد هذه الممارسات ما قامت وتقوم به حركة طالبان في افغانستان، وتنظيم الشباب المجاهد في الصومال، وما حدث غير مرة في بعض أقاليم اليمن أثناء سيطرة الجماعات الجهادية، وما يقوم به اليوم تنظيم داعش في الموصل العراقي، وغيرها من أقاليم سيطرته المعلنة، وآخرها تخيير مسيحيي الموصل بين دفع الجزية أو مغادرة » ديار الإسلام«، تاركين وراء ظهورهم تاريخهم وانتماءهم العروبي، وأملاكهم وذكرياتهم!

كانت المسافة بين الشريعة والحقيقة مسافة حرجة في كل التواريخ الدينية المعروفة، وقد قدم المسلمون مخرجاً منطقياً عاقلاً من هذه الإشكالية، من خلال الفلسفة الرُّشدية التي قالت بأنه لا تعارض بين المستويين، طالما كانت الفضيلة هي الجامع المشترك الأعلى بينهما. ومن هذا المنطق العاقل استفادت الكنيسة البروتستانتية الأولى بقيادة الراهب مارتين لوثر الأول، الذي سار على مذهب ابن رشد، ليُخرج أوروبا من ظُلمات القرون الوسطى، ومن محنة التناقض المفتعل بين الشريعة والحكمة، وليقدم فسحة دينية في الثقافة الأوروبية.. تلك التي تواصلت لاحقاً مع كبار أعلام الكنيسة العرفانية الثقافية في أوروبا الكاثوليكية بزعامة توما الأكويني.

ما نسمعه اليوم من تعاميم باطلة، يطلقها القاعديون، والداعشيون، والجهاديون الصوماليون، يعيدنا إلى ذلك المربع الكئيب الذي تجاوزته الأُمة منذ عشرات القرون، فالقول بوضع المرأة تحت عباية تامة الاكتمال من رأسها إلى أخمص قدميها يوقفنا على حال البوادي والأرياف في كل العالم الإسلامي، حيث تشارك المرأة في الإنتاج والعمل والرعي، وقد سجل المؤرخون مشاهد وشواهد للحجاب الكامل، وأوقفوه على بضع مدن تاريخية جاءت إفرازاً لقرون من الارستقراطية المنحلة الفاجرة، ولم يجدوا لتلك الحالة نظيراً في كامل المناطق الريفية العربية من المحيط إلى الخليج، حتى أن علماء الانتربولوجيا الأكثر صرامة قرنوا هذا النمط من الحجاب الخفائي الشامل ببيئات الانحلال المالي والمجتمعي.

نحن هنا لا ندعو للتخلِّي عن دواعي الحشمة والتعرِّي عن الأخلاق، بل نعتقد جازمين أن الإسلام دين مقاصد نبيلة، وجواهر فريدة، لا دين نصوص جامدة وقشور سطحية.. ينطبق هذا التعميم على جملة المفاهيم الإشكالية التي تحاصرنا، وتستحق منا وقفة إجلاء واستعادة ومراجعة، بما فيها مفهوم الخلافة الإسلامية.