الأحداث المأساوية التي تجري بها المقادير في العراق وسوريا، والثمن الباهظ الذي يدفعه المسيحيون العرب وشركاؤهم في الأوطان من المسلمين أصحاب الإسلام السمح الحنيف، لا الإسلام الداعشي المتطرف، لم تمنع من أن يصدر المجلس البابوي للحوار بين الأديان في حاضرة الفاتيكان، رسالته السنوية التي تجيء عادة في نهاية شهر رمضان الفضيل، لتهنئة العالم الإسلامي بعيد الفطر السعيد.

جاءت رسالة هذا العام، والتي وجهها الكاردينال الفرنسي الأصل »جان لوي توران« رئيس المجلس، تحت عنوان »نحو أخوة أصيلة بين المسيحيين والمسلمين«، والعنوان يدعو للتساؤل هل يؤمن بابا روما بهذه الأخوة؟

الوقائع والتصريحات هي التي تجيب بـ»نعم«، وهذا ما صدر عن البابا فرنسيس الأول بتاريخ 11 أغسطس من العام الماضي، عندما حيا المسلمين في العالم كله بالقول: »إنكم أخوتنا«. وفي هذه الأيام المؤلمة، حيث يرتفع صوت الراديكالية السلبية القاتلة إلى عنان السماء، ضاربة عرض الحائط بقرون من العيش المشترك الإسلامي المسيحي، بل والإسلامي المسيحي اليهودي في العالم العربي.. تعود بنا كلمات رسالة المجلس البابوي للحوار، إلى ما ذكره البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في »كادونا« النيجيرية في فبراير 1982، عندما تحدث إلى رجال الدين المسلمين هناك قائلاً: »جميعنا مسيحيون ومسلمون نؤمن باله واحد خالق الإنسان، ونعترف بسلطانه وندافع عن كرامة الإنسان كخادم لله، وأننا جميعاً نعبد الله ونسلم أمرنا إليه تسليماً كاملاً«.

هل تستوجب هذه الرؤية الفاتيكانية توجهاً ما من المسلمين والمسيحيين معاً؟ بالقطع أنها تحتم علينا سوياً شكر الباري على ما جعله مشتركاً بيننا، ومع أننا ندرك اختلافاتنا إلا أننا نعي أهمية تعزيز حوار مثمر مرتكز على الاحترام المتبادل والصداقة الأمينة المخلصة. ومما لا شك فيه أن قيمنا المتقاسمة والتي تعززها مشاعر الأخوة المتأصلة، تمثل مصدر إلهام لنا، إننا مدعوون للعمل معاً في سبيل العدالة لكل الإنسانية، والسلام لكل البشر، والوئام في كل رقعة على أرض المسكونة، واحترام حقوق وكرامة كل شخص.

الأخوة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين بحسب منظور هذه الرسالة، تفرض علينا جميعاً أن نشعر بمسؤوليتنا حيال الأشخاص الأكثر حاجة حول العالم، لا سيما الفقراء والمرضى والأيتام والمهاجرين، ضحايا الاتجار بالبشر وكل من يتألمون، ويعانون نتيجة الإدمان بجميع أشكاله.

لم تهمل رسالة المجلس البابوي للحوار بين الأديان، إشكاليات العصر ومستجداته التي تواجه الجميع دون تفريق بين مسلمين أو مسيحيين. وفي هذا الإطار يشدد الكاردينال توران على أن عالمنا المعاصر يواجه تحديات خطيرة، تتطلب تضامناً من قبل الأشخاص ذوي الإرادة الطيبة، وهذه التحديات تتضمن التهديدات المحدقة بالبيئة، والأزمات العالمية، وارتفاع نسبة البطالة ولا سيما بين الشباب، وجميعها تولد شعوراً بالهشاشة وانعدام الرجاء في المستقبل.

الرسالة البابوية التي تدفعنا لتأكيد اليقين بالأخوة الواحدة للمسلمين والمسيحيين حول العالم، تحذرنا من نسيان المشكلات التي يواجهها العديد من العائلات المنقسمة، والتي تركت أحباء وأطفالاً صغاراً في بعض الأحيان. والدعوة الصادقة، هي أن نعمل معاً من أجل بناء جسور السلام، وتعزيز المصالحة، لا سيما في المناطق حيث يعاني المسلمون والمسيحيون معاً من أهوال الحرب.

هل الأديان مصدر للسلام والوفاق أم للحروب والافتراق؟ قطعاً هي أصل السلام والخير والمحبة، وكل القيم الإيجابية التي تستمد من ينبوعها الإنسانية أملها في الغد، ومقدرتها على تجاوز الصعاب، والقفز فوق المحن، مهما كان الواقع مؤلماً كما هو الآن. ولهذا ينهي الكاردينال توران رسالته السنوية بقوله: »فلتلهمنا صداقتنا دائماً على التعاون في مواجهة هذه التحديات الكثيرة بحكمة وحذر: وهكذا الإسهام في التخفيف من حدة التوترات والصراعات معززين الخير المشترك«.

مهما يكن فإن الحقيقة الثابتة هي أن الأديان يمكن أن تكون مصدر انسجام يعود بالفائدة على المجتمع البشري كله، من أقاصي الأرض إلى أقصاها، لكن هذه الحقيقة تحتاج إلى عزيمة عالية وهمة صادقة، كي يبقى السلام والمصالحة والعدالة والنمو في طليعة أولويات أبناء إبراهيم، من أجل تعزيز خير ورخاء العائلة البشرية برمتها.

تنتهي الرسالة بتمنيات البابا فرنسيس بعيد سعيد وحياة مزدهرة في السلام، حتى وان كان شرقنا المتألم يئن من جراح الحروب التي أثخنت جسده، ومن العداوات الأصولية التي تعمل على تعزيز الانقسام وتكريس الطائفية، وبلورة واقع يجافي وينافي التاريخ الحضاري العربي الإسلامي الذي جمع أبناء الأديان كافة في تلك الرقعة من المسكونة.

من جديد نذكر أن كلمة أزمة في اللغة الصينية تأخذ شكلين، الأول ينم عن الخطر والثاني عن الفرصة.. هل من أمل في أن تكون أزمات المنطقة الآنية فرصة حقيقية لمراجعة الذات واستنهاض الهمم والعودة إلى زمان العيش الواحد التليد، حيث أشرقت شمس الحضارة العربية والإسلامية على العالم عندما قبلت الآخر المختلف إيمانياً وعقائدياً؟ طالما هناك حياة، يبقى هناك أمل.. كل عام أنتم بألف خير.