لا يتمنى أيُ إنسانٍ عربي أن يجد ما آل إليه عالمه العربي اليوم من تمزق وتشرذم وحروب لا تعرف للقيم العربية الأصيلة مكاناً.
إن التفسير النظري العلمي للحال العربي يتمثل في فهم الدول العربية للعلاقات الدولية.
لقد أصبح الفكر الواقعي السياسي هو المتحكم في فلسفة الحكم لدى القيادة السياسية في معظم الدول العربية، ضارباً بذلك عرض الحائط لكل القيم العربية، التي يمكن أن نجدها مثلاً في المدرسة البنائية في العلاقات الدولية، التي تؤمن بالقيم وبضرورة أن تكون هي المحركة للسياسة الخارجية.
فالعرب أصبحوا يؤمنون بفكر الواقعية السياسية الذي يُفسر العلاقات بين الدول من منطق المصلحة الوطنية لكل دولة، وليس العمل لتحقيق المصلحة الجماعية للدول، فكل دولة كيان سياسي ذو أرض وشعب وحكومة وسيادة.
وبالتالي فإن الدول تعمل من أجل حماية ذلك الكيان، من خلال السعي لرفع قوتهم لاسيما العسكرية منها في مواجهة بعضهم البعض، فالثقة معدومة بين الكثير من الدول، حيث إن المحرك ليس الإيمان بتبادل المصالح وبناء الثقة، وإنما العمل من أجل تحقيق مصلحة كل طرف وإن كانت على حساب الطرف الآخر. هذا ما نشهده اليوم في عالمنا العربي وللأسف الشديد.
معظم الدول تعتبر أن مصالحها الوطنية مختلفة عن المصالح الوطنية للدول العربية الأخرى، ولو كانوا جميعاً في ذات الإقليم الجغرافي، وبالتالي تعمل كل دولة على اتباع سياسات خارجية، من شأنها تحقيق تلك المصالح في مواجهة مصالح الدول الأخرى، إلى درجة أن بعض الدول أصبحت تقوض مصالح دول عربية أخرى في سبيل تحقيق مصالحها الوطنية.
إنها الأنانية السياسية، وهذا لب ما تتحدث عنه النظرية الواقعية السياسية في العلاقات الدولية، فالدول أنانية في علاقتها ببعضها البعض لأنها تعمل على تحقيق مصالحها، وإن كانت ضد وعلى حساب مصالح دول أخرى شقيقة ومجاورة.
وهذا نفاق وكذب سياسي، فلا أخلاق في السياسة حسب توجه هذه النظرية، وهو ما تقوم باتباعه بعض الدول العربية وللأسف الشديد.
فالأنانية السياسية وغياب الأخلاق عن السياسة يجعل بعض الدول تستثمر الأحداث لصالحها الخاص، وإن كانت ضد الصالح العربي العام، وهذا هو ما يحدث ونشاهده اليوم، فليست فقط الدول الإقليمية الكبيرة صاحبة المشاريع التحكمية في وطننا العربي هي التي تتبع النهج الواقعي السياسي في علاقتها بنا.
بل أصبحت بعض دولنا العربية تتعامل مع بعضها البعض من ذات المنطلق، وتتبع فلسفة هذا التوجه القائل إن المكسب لغيري يعتبر خسارة لي، والخسارة لغيري تعتبر مكسباً لي؛ حتى إن مثل هذه الدول قد أصبحت أكثر تزمتاً مما تدعو له النظرية الواقعية السياسية ذاتها، حيث إنها لم تكتفِ باعتبار أن المكسب لعدوها هو خسارة لها، بل أصبح الأمر هو أن المكسب لصديقها هو خسارة لها، والخسارة لصديقها هو مكسب لها.
أينما تنظر في عالمنا العربي اليوم تجد نيران تلتهب وتأكل الأخضر واليابس سواء في فلسطين، سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، السودان، أو الصومال؛ وتجد كذلك نار الفتنة تنتظر من يلقي الشرارة عليها في مصر ولبنان والأردن وتونس والبحرين والجزائر والكويت والسعودية، ولكن المؤسف حقاً هو أن في كل تلك الزوايا من العالم العربي نجد دوراً أنانياً ولا أخلاقياً لدول عربية ضد بعضها البعض، تعمل من خلال سياساتها على تأجيج الوضع الأمني في مثل تلك الدول.
وهذا أمر غريب بحق، فيمكن لنا أن نتفهم الدور التفكيكي، الذي تحاول الدول الإقليمية الكبرى القيام به في عالمنا العربي، ولكن كيف لنا أن نتصور دوراً تدميرياً من قبل دول عربية ضد دول عربية أخرى ولا سيما بين تلك الدول التي لم تكن في الأساس تنظر لبعضها البعض بعين العداوة.
ولعلنا اليوم نشاهد الحدث المأساوي في غزة، والعرب يمارسون الأنانية واللاأخلاقية السياسية، وكأنما الدم الفلسطيني رخيص لدرجة أن يتلاعب به البعض لمصالحه، فقد أصبحت الساحة الفلسطينية وللأسف الشديد ساحة منافسة بين الفلسطينيين أنفسهم وبين كذلك الدول العربية لتحقيق مصالحها المختلفة، فهناك من يريد لحماس الانتصار والاستمرار ولو على حساب دم أهل غزه، فيدعم حماس بكل ما أوتي من قوة، وبالتالي تقف حماس معه غير مكترثة بالكوارث الإنسانية التي تنتج عن مثل هذا العناد.
وهناك من يرى في انتصار حماس تقويض لمصالحه الوطنية. وبين هذا وذاك يهلك الشعب الفلسطيني في غزة، بينما يمارس ساسته الأنانية واللاأخلاقية السياسية.
إن العالم العربي مفكك اليوم أكثر من أي وقت مضى، بالتالي فإنه يصبح أكثر سهولة للتأثر من قبل الآخرين الذين يسعون لتنفيذ أجنداتهم في المنطقة، فلا عجب أن تجد إيران وتركيا أصدقاء لها في المنطقة العربية، بل وحلفاء تتوغل من خلالهم في شؤون المنطقة، ولا عجب أن تجد الجماعات المسلحة التي ترفع الشعارات الدينية أرضية لها للعمل والنشاط في المنطقة العربية، إنها الأنانية واللاأخلاقية السياسية التي تؤدي للخبث السياسي.
الحل صعب ولا يمكن لأحد أن يدعي أن لديه المعادلة السحرية لتجاوز المنطقة العربية محنتها اليوم، ولكن نستطيع القول أننا لو تجاوزنا الأنانية واللاأخلاقية السياسية في علاقتنا ببعضنا البعض.
وعدنا لقيمنا العربية الأصيلة لتمكنا من أن نخلق أرضية قوية نتجاوز من خلالها عمق الخلافات القائمة، هل ما زال في عالمنا العربي من يؤمن اليوم بأن في السياسة أخلاق؟!