رغم وحشية الهجوم الإسرائيلي على غزة، فإن القراءات والتحليلات تؤكد أن إسرائيل لن تربح مثل هذه الحرب في الحال ولا في الاستقبال، بل ربما كانت مثل هذه الهجومات التي وصفها الجنرال الأميركي السابق »برنت سكوكروفت« بأنها مأساوية، أداة معجلة لتحويل إسرائيل إلى موقع عسكري كبير، مع الأخذ في الاعتبار أن معظم إن لم يكن كل المواقع العسكرية عادة ما يتم إخلاؤها والتخلي عنها بعد الحرب. ولكن، لماذا لن تربح إسرائيل هذه الحرب في الوقت الحالي؟
أفضل جواب جاء خلال الأيام الماضية على صدر صفحات »لوس انجلوس تايمز« الأميركية، التي اعتبرت أن ما تقوم به إسرائيل هو الجنون بعينه، لأنها تفعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً وتتوقع نتائج مختلفة..ما معنى ما تقدم؟
حال تفكيك وتحليل المقولة السابقة، نجد أن التفكير الأمني هو الذي يسود العقلية الإسرائيلية. ففي عامي 2008 و2010 شنت إسرائيل حملات عسكرية للقضاء على القدرات الصاروخية لحركة حماس، لكن الواقع يؤكد أن الحملتين السابقتين باءتا بالفشل، وأن حركة حماس لا تزال تطلق الصواريخ من غزة.
ولا يمكن لإسرائيل أن تكسب هذه الحرب، لأنها في المقام الأول تقاتل فقط أعراض الصراع مع الفلسطينيين، وليس الأسباب الكامنة لهذا الصراع، والتي تتمحور حول حصار غزة والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. خطأ إسرائيل القاتل يتمثل في ضعف ذاكرتها، رغم أنه لم تمض سنوات طوال على عملية »الرصاص المصبوب« عام 2009، والتي كتب بعدها المحلل السياسي الإسرائيلي »كوبي نيف« من صحيفة معاريف »إن دولة إسرائيل مع الإجلال كله لقواتنا وللقنابل التي نملكها، لم تعد قادرة على الانتصار في أي حرب، وليس من المهم البتة أي حرب ستكون، وفي مواجهة من ستتم«.
وقبل ست سنوات وخلال احتفالات إسرائيل بالذكرى الستين لقيامها غير الشرعي، وقعت نحو مائة شخصية أكاديمية بريطانية يهودية على عريضة نشرتها صحيفة »غارديان«، دعوا فيها إلى مقاطعة الاحتفالات، وبحسب البروفيسور اليهودي »حاييم براشتين«، فإن السبب هو أن »الإرهاب الحقيقي يتمثل في ما تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين منذ نحو 40 عاماً، إنه إرهاب الدولة القوية التي تدفع الفلسطينيين إلى الزاوية التي ليس فيها لهم أي مجال سوى الانتحار«.
التهديد الأكبر الذي يحدق بالدولة العبرية اليوم، يأتيها من قلبها لا من الخارج، فها هو الحاخام اليهودي »يسرائيل ويس« من جماعة اليهود المتحدين ضد الصهيونية، يذهب إلى أن »إسرائيل أفسدت كل شيء على الناس جميعاً، اليهود وغير اليهود، إذ حولت الصهيونية الديانة اليهودية من دين روحي إلى شيء مادي ذي هدف قومي للحصول على قطعة أرض، وان هذه الحرب الدائرة مع الفلسطينيين خاصة أو مع العرب عامة، ليست دينية بل دنيوية«.
من يرصد الفشل الإسرائيلي الواضح والفاضح في الحرب الأخيرة على غزة؟ تعد مؤسسة ستراتفور بالفعل استخبارات الظل في الولايات المتحدة الأميركية، وقد رأت أن الحرب الإسرائيلية على غزة أشبه ما تكون بعملية »تدبير منزلي فاشلة«، ذلك أن إسرائيل تحرص على تأكيد قدرتها على مواصلة حملتها العسكرية ومعاقبة قطاع غزة، رغم قناعتها بعدم إمكانية فرض إرادتها على غزة وإجبار قادتها على التوصل لتسوية سياسية مع إسرائيل.
لن تربح إسرائيل الحرب لأن القصف الوحشي على غزة يعمق أزمتها أكثر مما يحلها، فعلى مدى السنوات السبع والأربعين الأخيرة، تسببت إسرائيل في قطاع غزة بأسوأ الكوارث الإنسانية في العالم. وكلما دمرت إسرائيل المزيد من الأهداف، زاد السخط بين أوساط المجتمع الغزاوي، وأغضب الحصار المفروض على غزة من بقي على قيد الحياة من أقارب القتلى وجيرانهم وأصدقائهم وبقية أفراد مجتمعهم. واليوم تتعالى الأصوات في إسرائيل رافضة مذابح غزة، وبعض جنودها يصرحون لوسائل الإعلام الإسرائيلية بأنهم يفضلون السجن على أن يقصفوا المدنيين في غزة.
والأمر لا يتوقف عند العسكريين الرافضين لهمجية نتانياهو ويعلون، بل يتخطاهم إلى الأكاديميين الإسرائيليين.. هل أتاك حديث »إيلان بابي« المحاضر الرئيسي للعلوم السياسية في جامعة حيفا؟ يرى الرجل أن المرحلة الراهنة سيئة جداً، ويصفها بأنها »المرحلة الأخيرة لمساعي إسرائيل الأحادية لتقسيم الضفة الغربية إلى جزأين، واحد يلحق بإسرائيل والآخر يصبح معسكر اعتقال كبيراً«. ويصف الوضع في غزوة بأنه أسوأ مما كان قائماً في جنوب إفريقيا، وأنه بسبب مقاومة الفلسطينيين لحالة السجن هذه، تشن إسرائيل سياسة قتل جماعي متصاعدة، ويبدو العالم غير مبالٍ بما يحدث هناك من مذابح.
لن تطمر غزة في المياه كما حلم اسحق رابين ذات مرة، وإسرائيل لن تربح الآن ولا في المستقبل، طالما بقي الفلسطينيون في حاجة إلى الكرامة والخبز.