الشرق والغرب سؤال عسير يتشظَّى مع الأزمنة السياسية المتعاقبة، ويعيد إنتاج نفسه بكامل الصور الملهاوية والمأساوية، ولعل ذات السؤال مازال متأرجحاً بين الحقيقتين الجغرافية المكانية، والمفاهيمية الذهنية التي تخترق سياج الزمان والمكان، ولعل هذا المفهوم الثاني المغاير لمقتضيات الجغرافيا والتاريخ مازال يمثل أساس القراءة لهذه المعادلة القائمة على طرفين أحدهما شرقي والآخر غربي، لكن هذه الثنائية لا تستقيم على نسق واحد، بل على تعددية مفاهيمية وواقعية أيضاً، فالصراع العربي الإسرائيلي يصب في مجرى علاقة العرب بالغرب السياسي المقرون بحلف شمال الأطلسي، فقد تم استزراع المؤسسة الدينية السياسية في فلسطين عطفاً على محنة اليهود في أوروبا التاريخية، وتبكيتاً للضمير الغربي الذي كان وراء المذابح التي تعرض لها اليهود في تلك البلدان، والدليل الفولكلوري على ما نذهب إليه حول قراءة الشرق العربي بمقابل الغرب الأوروبي عطفاً على المسألة اليهودية، نراه ماثلاً في تحالف الغرب السياسي لصالح اسرائيل، حالما تنشأ مشكلة بين العرب وإسرائيل، ومن هنا ثبت التصور الذهني المقرون بالشرق العربي والغرب الأوروأميركي، مما يعيد إلى الأذهان المركزية التاريخية الأوروبية النابعة من عقيدة صراعية تاريخية، رسخت في تقاليد الغرب السياسي تجاه العرب.
ثنائية الشرق والغرب لم تقف عند تخوم العرب وأوروبا بامتداداتها الأمريكية الأنجلوسكسونية، بل تم تعميمها على التباين التاريخي بين نموذجي الغرب السياسي الإقتصادي، والسوفيتي الإشتراكي، وكان تجيير المقولة لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، منطوياً على ذات المفهوم الغربي المتجني على التاريخ والجغرافيا، ذلك أن الاتحاد السوفيتي بحسب هذا المفهوم، مجرد صورة جديدة للشرق التاريخي "العربسلامي"، سواء لجهة التوصيف القائل بإرهابية النموذج السوفيتي، أو لجهة المغالاة في اتهام اليسار العالمي بالإلحاد المُفارق لروحية الدين المسيحي، ومن طرائف هذه الصورة الذهنية النمطية أنها قد تشمل آسيا الكبيرة، وخاصة الصين الشعبية، ففي مقاربات "هنتنجتون" المنطلقة من ذات المفهوم الصراعي الأزلي بين الشرق والغرب إشارة إلى أن الكونفوشيوسية الدينية ستتحالف مع الإسلام، تمهيداً للحرب الكبرى التي سيشكل فيها الغرب محور الخير، والشرق محور الشر!!.. هكذا!
ما ذهبت إليه من استنتاجات ليس من عندياتي، بل نجده مسطوراً أو ممارساً بكامل البشاعة الماثلة، وأحكام القيمة الإطلاقية منقطعة النظير، وبقدر كبير من التحامل، ونكران حكمة التاريخ والجغرافيا، وصولاً إلى تبني النظريات العنصرية ضد الآخر المختلف في جذوره الدينية والحضارية.
لكن هذا ليس نهاية المطاف، فمن الإنصاف الإشارة إلى علماء الغرب الأجلاء ممن غادروا هذه النزعة، وقاموا بسجال فكري مقرون بكفاءة العارفين المُدركين لقوانين الوجود والمجتمعات البشرية، واقفين ضد الغلو والتعصب والمُصادرة.. ومنهم عالم التاريخ المفكر الفرنسي الكبير "جوستاف لوبون" الذي كتب عن حضارات الشرق، كما أسهم الفيلسوف ومفكر اليسار العتيد كارل ماركس في كشف الميتافيزيقيا السوداء التي طالما تدثَّرت بأديان التشريع الوضعي الاجتهادي، فيما كانت أديان المنابع الصافية منها براء، كما تابعنا قبل حين ذلك الموقف الرفيع للراحل المفكر الكبير "روجيه جارودي" الذي حاصرته الدوائر الصهيونية بعد أن باشر مجرد مراجعة إجرائية لضحايا الهولوكست اليهودي.
وفي رومانيا واجه بروفسور التاريخ "إيليا بويا" حصاراً منهجياً من قبل الدوائر اليهودية المُتصهينة بعد صدور كتابه الهام عن تاريخ فلسطين، والذي كشف فيه عن تهافت المقولات التي بررت قيام دولة اسرائيل.
وعلى خط متصل نتابع اليوم المواقف الشجاعة لعالم اللسانيات الأكبر "نعوم تشومسكي".. الرافض جُملة وتفصيلاً لسلوكات ومبررات المركزيات اليمينية الأيديولوجية المتعصبة، معتبراً الريغانيين الجُدد في الولايات المتحدة سبباً في دمار العالم. كما يجد امتداده الفني الشجاع في ملحمة المُكاشفة السينمائية التاريخية للمخرج "ميل جبسون".. صاحب الملاحم السينمائية التي تكشف تواريخ القهر والظلم، المقرونة بالعصبيات العرقية والدينية.
هكذا إذاً تبدو الصورة. الغرب واحد بالمعنى السياسي الأيديولوجي، والشرق متعدد بقياسات الزمان والمكان، لكن الغرب السياسي المؤدلج لا يرى الشرق الا باعتباره واحداً، سواء كان شرقاً إسلامياً عربياً، أو مسيحياً أورثوذوكسياً يسارياً، أو كونفوشيوسياً صينياً، ولعل ذات التصنيف المركزي، سيطال ذات يوم قريب الهند الهندوسية، واليابان البوذية.. فيالها من معايير إقامة سرمدية في ثبات المعنى، وجمود المبنى.