بعد إفطار رمضاني فاخر بأريحية وكرم وسعة صدر مضيفنا، حاكم دبي، فاجأني صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بطلبه الكريم: «لا تتردد في نقدي ونقد أي قصور تراه في أداء حكومتي».
ولم تسعفني المفاجأة أن أسأله: وهل تركت لنا مجالاً لنقدك؟ بربكم، ما الذي يمكن نقده في إمارة أذهلت العالم كله بنموها ومشاريعها وأناقتها وأداء مؤسساتها؟ وكيف لنا أن ننتقد حكومة جعلت «إسعاد» الناس غايتها؟ أليس هو من قال جازماً: «لا بديل لنا عن المركز الأول، وكلمة مستحيل ليست في قاموسنا في دولة الإمارات»؟
كيف لنا إذاً أن ننتقد رئيس حكومة أنذر وزرائه وكبار المسؤولين في حكومته بأنهم سيُدعون إلى حفل وداع إن كانوا غير قادرين على مواكبة أفكار وخطط حكومته الذكية؟ وماذا يمكن قوله عن دولة ما إن تذكر اسمها للغرباء في شرق الأرض وغربها حتى تغمرك مشاعرهم بالتقدير والانبهار؟
لن أكتب هنا عن تقديري الدائم لتواضع سموه وطيبته العميقة وإدارته الحازمة، فتلك من سمات القائد الواثق في نفسه.
ولولا تلك الصفات القيادية في محمد بن راشد لما تأسست في دبي ثقافة مهنية مختلفة حفزت الموظف الصغير قبل الكبير إلى الإبداع وسرعة الإنجاز. وهي صفات القائد الطموح الذي يعتبر كل إنجاز يحققه ليس سوى مقدمة لإنجازات أكبر. أليس هو من قال: «النجاح رحلة، كلما وصلت فيها إلى قمة تطلعت للقمة التي تليها»؟
يدرك الشيخ محمد تماماً إلى أين تتجه الإدارة الحكومية الحديثة، إذ يكتب سموه في «ومضات من فكر»: «حكومة المستقبل ستقدم خدماتها للناس 24 ساعة في اليوم، 7 أيام في الأسبوع، 365 يوماً في السنة». هكذا هي الرؤية وهكذا تتم ترجمتها: خطط عملية لتنفيذها في تواريخ محددة، ومن لا يلتزم بها يغادر موقعه بعد حفلة وداع محترمة.
ميزة أخرى في الشيخ محمد بن راشد أنه رجل عملي يدع الأفعال والإنجازات أولاً تتحدث عن نفسها. يقول: «لن نعيش مئات السنين، ولكن يمكن أن نبدع شيئاً يستمر لمئات السنين». فهل يحتاج محمد بن راشد لمزيد من المشاريع لإثبات قدراته الإدارية؟ إنه قائد يخطط للمستقبل ولأجيال لاحقة ستنعم بما يزرعه اليوم من مشروعات وأفكار تنموية عملاقة.
فكيف لدبي أن تحقق هذا المنجز الضخم واقتصادها لا يقوم أساساً على «عائدات نفطية» لولا رؤية إدارية طموحة وخطط تنموية صارمة نجحت في استقطاب رؤوس أموال عالمية استثمرت بثقة في دبي؟ سيتهمني البعض، مثلما فعلوا في الماضي، بأنني شديد المبالغة في مديح المنجز الإماراتي وكثير الثناء لصانع القرار في الإمارات.
لكنني اليوم أكثر ثقة من ذي قبل بصحة ما أكتب عن دولة صارت هي «النموذج» الذي يطمح إليه شباب المنطقة، خصوصاً من أولئك الذين يقدمون تحديات التنمية على ألاعيب السياسة وجدالات الأيديولوجيا. يكفي أن تنظر إلى خارطة البؤس العربي من حولك لتعرف لماذا نفرح بما تحقق في الإمارات.
أليست الإمارات اليوم هي من النقاط القليلة المضيئة بأخبار تنموية واقتصادية إيجابية على خارطة التراجع المخيف في عالمنا العربي الحزين؟ لقد زادت قناعتي بالمشروع التنموي الإماراتي وأنا أرقب بقلق تداعيات ما احتفيت به حينما انطلق، وظننته «ربيعاً» عربياً فإذا به يكشف عما أخفته فرحة «الربيع» من بؤس متجذر وصراع فكري عميق وانقسامات طائفية مرعبة في الشارع العربي.
كتبتها كثيراً وكررتها أكثر، حتى من قبل عاصفة الفوضى التي تجتاح العالم العربي منذ ثلاث سنوات: مفتاح الحل في العالم العربي يكمن في التنمية وينطلق منها. ولك أن تكررها: التنمية. التنمية. التنمية.
لا مخرج لأمتنا من أزماتها قبل أن تشرع في مشروع تنموي ضخم يقدم العقل على العواطف وينظر إلى المستقبل بعين متفائلة أكثر من انغماسه في تصفية حسابات تاريخية ليس لأبناء اليوم فيها ناقة ولا جمل، ولو تحقق الاستقرار لربما عاد الأمل الغائب إلى الشباب العربي المتطلع لمستقبل آمن وفي ذلك فائدة للجميع.
يكتب الشيخ محمد: «استفادة الإمارات ستكون أضعافاً مضاعفة لو كانت المنطقة مستقرة وخالية من التوترات». وفي الوقت نفسه، يدرك الشيخ محمد أن عليه وعلى حكومته مواصلة الإنجاز بغض النظر عن أزمات المنطقة وقلاقلها.
أو كما يقول: «لو انتظرنا استقرار المنطقة حتى نطلق المشاريع الكبيرة، أين سنكون اليوم؟».
أنا لا أتردد لحظة في القول إن الإمارات اليوم تعد النموذج التنموي المتفوق في المنطقة. وهذه مكانة تحملها الكثير من المسؤوليات والتحديات إقليمياً ودولياً. إنها اليوم – مثل قيادتها – تجربة عربية ملهمة نادرة تستحق الاحتفاء لا نظرة الحسد أو البحث عن نقاط القصور.
أكيد، لا توجد تجربة تنموية كاملة ولكن علينا دائماً أن نقارن بالمتاح من التجارب في محيطنا وأن نفرح بالمنجز التنموي في منطقتنا بدلاً من سن سكاكين النقد فقط للانتقاص من تجارب النجاح حولنا.
أما «واجب» النقد – حينما يفرض نفسه – فتلك مسؤولية أخلاقية ومهنية من أجل الصالح العام أولاً. لكنها ــ صدقاً ــ مسألة صعبة أن نجد ما ننتقده في تجربة ملهمة كتجربة محمد بن راشد.
فما الذي يمكنك أن تنتقده في دولة لا تحتاج فيها إلى «واسطة» تساعدك على استخراج رخصة القيادة أو جواز السفر أو وثيقة عقارية؟ وما الذي يمكن أن تقوله عن جهاز أمني يتصل بك منتصف الليل ليطمئن عليك لأن سيارة الشرطة مرت بجوار بيتك وكان «كراج» منزلك مفتوحاً؟ وكيف تنتقد حكومة موظفوها مدربون على البحث عن أسهل الحلول لإنجاز معاملتك وفي أسرع وقت، وشعار «فالك طيب» لا يفارق ألسنتهم؟ وتلك الأمثلة ليست سوى قطرة من بحر المنجز التنموي الإماراتي الضخم.
عذراً سيدي، فكيف لي أن أنتقد مدرسة علمتني أن «المستحيل هو كلمة يستخدمها البعض لوضع سقف لأحلامهم»، ومعلماً على يديه عرفت معنى أن يكون المرء «إيجابياً» في نظرته لنفسه وللظروف في محيطه؟
كيف لي أن أنتقد تجربة تنموية أباهي بها دوماً وأفتخر؟