كثيرة هي الأسئلة المرتبطة بالتاريخ والعقائد، وتتنوع الإجابات بقدر تنوُّع هذه الأسئلة، بل إن التنوع يطال كل دين وعقيدة على حدة.

وعند النظر المتأمِّل لهذه البانوراما الأُفقية الواسعة من الإجابات المقرونة بالاجتهادات العقلية والدنيوية، سنكتشف أنها بجُملتها تتباعد قليلاً أو كثيراً عن الجوهر الناصع للديانات والعقائد التي جاءت لخير البشرية، وتاقت لتحرير الإنسان من رزاياه الشيطانية، ونزعاته الحيوانية، ولكن هيهات للصفاء أن يسود، وهيهات للمعاني الكبيرة أن تنطلق دونما كوابح وحواجز، وفي قصص الأنبياء الكثير الكثير من العبر والعظات، فقد واجهوا جميعاً عنتاً وتعسفاً من أقوامهم؛ من إبراهيم الخليل عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (ص)، الذي واجه من قريشٍ الكثير من الأذى والعنت والتعسف، حتى نصر الله الإسلام في موقعة بدر الكبرى، فكان حكم الرسول الكريم على قومه الذين كذّبوه: »اذهبوا فأنتم الطلقاء«.. وهذا ما كان من أمر الرسل والأنبياء والمصلحين على مدار الزمان.

كامل الاجتهادات التي حاولت تقديم مرئياتها باسم الأديان، جافت بهذا القدر أو ذاك الجوهر النبيل لتلك الأديان. حدث ذلك في ديانات الشرق الكبرى، كما في الأديان السماوية الثلاثة المعروفة، والشاهد أن الصراعات التاريخية التي كانت بين الأديان من جهة، وحتى داخل الدين الواحد، إنما كانت صراعات دنيوية تدثَّرت بالدين، بل وتغوَّلت في تطرفها الديني. وقد تجلَّت هذه الحقيقة المُفْزعة في الصراعات الدينية الدنيوية التاريخية بين اليهودية والمسيحية من جهة، كما بين الفرق المسيحية الدينية من جهة أخرى، مما لسنا بصدد تفصيله هنا.

هذا يفسر لنا ما كان في الماضي البعيد والقريب، وحتى يومنا هذا. والشاهد ما نراه اليوم في العراق وسوريا، كما رأينا قبل ذلك في أفغانستان والصومال، وكما نسمع به من الهرمجدونيين الذاهبين إلى حرب كونية يعتبرونها ترجمة لإرادة الخالق! وتعج آداب النبوءات التدوينية بمثل هذه الخيارات الجبرية، ومن المثير للعجب أن هذه الآداب التدوينية المغروسة في نسيج »أديان الشريعة الوضعية«، تلتقي عند هذا الحد من القول بالنهايات التراجيدية الحتمية، وكأنها تبرر التدافع المريب صوب الموت الجماعي الماثل.

تنوعت الأسماء عند كل الملل والنحل، والجوهر واحد، فالنموذج الطالباني الأفغاني، يعيد إنتاج نفسه في تجارب الصوماليين، والداعشيين في العراق والشام، والقاعديين في اليمن؛ فكل هؤلاء يلهجون باسم الدين، ولكنهم ينخرطون في متوالية تشويه للإسلام ، وعبقرية تعامله مع نواميس الجغرافيا والتاريخ. ومن المريب حقاً أن يتوفَّر هؤلاء على أسباب الدعم ، والرافد البشري ، من بيئة وفَّرت للتيارات الفرصة لتجييش آلاف الشباب المنحدر من الفقر، ومن بيئات أرستقراطية في ذات الوقت.

ومن المخيف أن التفكير ما زال محصوراً في مكافحة النتائج، لا الأسباب الحقيقية . قبل أيام احتدم جدل بنَّاء بين نخبة من الانتلجنسيا العربية الثقافية، حول ماهية المشكلة الجوهرية التي تنتصب شاخصة أمام الفكر السياسي والمجتمعي العربي الراهن، واتفق المتحدثون على تشخيص الداء، ولكنهم تباينوا كالعادة في تحديد الدواء، فمنهم من اعتبر أن جذور المشكلة تكمن في منطق التأويل للمقولات الدينية، ومنهم من رأى المشكلة في التعارض المفتعل بين الدين ومقتضيات الحياة في تحولاتها ، ومنهم من وقف عند حد الحيرة وفقدان البوصلة، لكنهم أجمعوا على حقيقة لا جدال فيها، تكمن في كوننا أمة مأزومة، وأننا في لحظة الذروة من الانحطاط المقرون بالتنافي العدمي.

أعتقد أن مثل هذا الجدل المُكاشف لحقائق الأوضاع العربية، يستحق التأصيل على المستويات التشخيصية والخلافية معاً، فبدون هذا الخلاف لن نصل إلى الحقيقة، وبدون المكاشفة لن نعرف طريق الصواب. وفي تقديري الشخصي المقرون باجتهاد قابل بالرأي الآخر، أن المشكلة في الفكر العربي الشاخص تكمن في تلك الحقيقة المرعبة، التي ترينا كيف أننا ما زلنا نعيد إنتاج مفردات البؤس التاريخي بكفاءة المخطوفين من ذواتهم العاقلة، وكيف أننا ما زلنا محاصرين بالدائرة التي تعيد إنتاج نفسها منذ أن خَبَتْ الثورة المعرفية بتلاشي الرشدية الفلسفية، والنزعات العقلية الاعتزالية، والوسطية الأشعرية الحكيمة، والمكاشفات الدافقة للمعري وابن سينا، والإسهامات العرفانية السامية لابن عربي والغزالي.

لقد توقف الاجتهاد منذ لحظة الانهيار الكبير عند سقوط الأندلس بالترافق مع ملوك الطوائف، وها نحن اليوم نشاهد أمراء الحرب والطوائف الذين يمزقون الأمة، ليقدموا نصراً مجانياً لمُتوحشي »الفوضى الخلاقة«، المتدثرين بأردية الزيف المخملي للديمقراطية والحرية والعدالة، فالريغانيون الجُدد ، يقرأون التاريخ والمعطيات وفق أهوائهم المركزية، ولا يكادون يخرجون من شرنقة الكيل بمكيالين، والنظر بعدستين متناقضتين، والإمعان في استخدام مؤسسة القوة، حد التماهي التام مع فكرة القوة المجردة، وبذرائع لا تمت للحق والحقيقة بصلة.

وقد كان المخرج الطليعي ميل جيبسون فاضحاً لهذه النزعة المدمرة وهو يختصر فيلماً بكامله في لقطة ختامية مُوحية، جاءت على النحو التالي: يصل المستكشفون الأوروبيون إلى القارة الجديدة أمريكا.. يتقدمون على الشاطئ الرملي الفسيح.. يحرصون على أن يكون في مقدمة الركب المدجج بالبنادق والسيوف، كاهن يرفع الصليب، وبجواره حفنة من حملة المدافع المُخصصة لإبادة الهنود الحمر.

ذلك هو العنف الموعود الذي واجهه السكان الأصليون باسم الراية الدينية الخفَّاقة، وهذا ما يُعاد إنتاجه اليوم.. فيا له من تجنٍّ بالغ على رسالة السيد المسيح عليه السلام، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم.