لنعرف السياق العام للموقف الضابط لتحالف دول حلف شمال الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة، من المفيد استرجاع حالة معاصرة تكشف مركزية هذا الموقف إلى حد التماهي التام بين فرقائه، وحتى تذويب الخلافات الطبيعية في قراءة الشواهد والمتغيرات السياسية في العالم.
فالمعروف أن أوروبا الغربية أكثر من يدفع أثمان هذا التحالف الصعب، وأنها لا تستطيع الخروج عن إجماع حلفائها في إطار السبيكة المغلقة المستغلقة لدول الحلف، وقد كان العالم المُراقِب للحالة الدولية مستوعباً لهذا التحالف أثناء الحرب الباردة، باعتبار أن التوازن الثنائي العالمي شكل يومئذٍ ميزاناً للرُّعب والسلم معاً.
لكن انتهاء الثنائية القطبية افترض نهاية التحالف المغلق بين دول الحلف الأطلسي، خاصة وأن اليمين الجمهوري في الولايات المتحدة ظل حريصاً على أن يكون القائد الأعلى لذلك التحالف العالمي، الخارج من تضاعيف الحرب العالمية الثانية.
لم يحدث ذلك بالطبع، ولم ينفرط عقد التحالف الأطلسي الثابت، وعانى العرب الأمرين من هذه الحالة. وعلى سبيل المثال، ظلت إسرائيل هي الميزان الوازن للموقف الأطلسي بجُملته، وبغض النظر عن الصداقات العربية الغربية والمصالح المتبادلة، والتشاور الدائم مع الغرب السياسي، في أدق الأُمور وأكثرها حيوية، والانفتاح المنهجي على الموديل الغربي، وغيرها من شواهد تدل على أن العرب ظلوا يأملون الحد الأدنى من الإنصاف، ولكن دون جدوى، فالعالم العربي ظل مقروناً بشوكة الميزان "الديمقراطية العلمانية" اليهودية.. هكذا!
وحتى نعرف درجة الثبات الأطلسي في قراءة المتغير العالمي، من المفيد استرجاع سيناريور الخلاف التاريخي مع الاتحاد السوفيتي.. المُنسحب بقوة الدفع الأُولى على روسيا الجديدة. ولعل أوكرانيا تمثل ذروة المعاني القادمة من هذا الثابت للأطلسية السياسية والاستراتيجية، حيث نجد كشفاً بيانياً ناصعاً لتحالف غربي غير حميد.
ونحن هنا نستعيد هذا السيناريو الواقعي لنكتشف أن الأمر لا يتعلق بأوكرانيا فقط، بل بكامل المنظومة العالمية المرئية بعدسات التقليد العتيد للتحالف الأطلسي، فقد بدأ سيناريو الاستفزاز الغربي لروسيا ما بعد يلتسن، من خلال جورجيا ومولدوفيا، ومن حسن حظ مولدوفيا أنها لم تقع في الخطأ القاتل للرئيس الجورجي ساكاشفيلي، الذي قَبِل بدور مخلب القط الخادش لروسيا، من خلال تلويحاته العسكرية الفاقعة، وبإشراف خبراء إسرائيليين!..
ثم تابع سياسة العض للدُّب الروسي من خلال الهجوم على إقليم أوسيتيا ذي الحكم الذاتي، متناسياً أن الوجود العسكري الروسي في ذلك الإقليم كان مُشرْعنا باتفافية رسمية موقعة بعد انحلال الاتحاد السوفيتي.. الأمر الذي منح روسيا الذريعة القانونية الكاملة لاكتساح جورجيا، وتمكين أوسيتيا وأبخازيا من الانفصال المقرون بشرعية حق تقرير المصير لأقاليم الحكم الذاتي التابعة لمنظومة اتحاد الجمهوريات المستقلة، الخارجة بجملتها من الاتحاد السوفيتي السابق.
المثير أن الولايات المتحدة ودول حلف شمال الاطلسي، تركوا نظام ساكاشفيلي لمتاهته، مُتخلِّين عنه بكل بساطة، كما لو أن جورجيا كانت مجرد محطة جس نبض واختبار لرد الفعل الروسي، ولم تكن الهدف الاستراتيجي.
تالياً بدأ الاستفزاز لروسيا الناهضة، على خط أوكرانيا الأكثر حساسية بالنسبة لروسيا، لأسباب متعددة، منها كونها تشرف على المدخل البحري الوحيد لروسيا نحو جنوب العالم عبر شبه جزيرة القرم، وكونها تمثل رصيداً استراتيجياً للتصنيع العسكري ذي المنشأ الروسي، ولأنها تضم جالية روسية مُعتبرة، وتمثل امتداداً عضوياً للسلافية الثقافية والارثوذكسية المسيحية المشرقية الروسية.
يضاف إلى كل ذلك أن أوكرانيا هيأت نفسها لدور مريب، كذلك الذي باشرته بولندا الكاثوليكية منذ أن تمَّ نصب الصواريخ الأطلسية الموجهة لروسيا في أراضيها، وهو أمر ما كان للعسكرية الروسية أن تبتلعه.
وقد بدا الرئيس الروسي بوتين واضحاً في رده على منظومة الصواريخ الأطلسية تلك، عندما أعلن نشر ما عُرف بالقاطرة الصاروخية الروسية، التي تمثل حزاماً رادعاً يمتد على طول الحدود الروسية المتاخمة للغرب.
بعد هذه المقدمات بدأ سيناريو الثورة البرتقالية الأوكرانية في طبعتها الجديدة، المضمخة بالنزعة القومية الشوفينية، وعديد الملامح الفاشية المتعصبة، فأطلت الأزمة الداخلية برأسها في العاصمة كييف وبقية المدن الاوكرانية.
وقبلت روسيا بالحوار مع كييف، وبشهود مشاركين من ألمانيا وفرنسا، وتم التوقيع على اتفاقية شاملة للتسوية السياسية، لكن هذه الاتفاقية الذي وقعت عليها الأطراف الاربعة تم الاخلال بها خلال 24 ساعة، وقد انتظر الكثيرون موقفاً ألمانياً فرنسياً رافضاً للانقلاب على الاتفاق، بصفتهما شاهدين مفوضين من الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الاطلسي، ومُشاركين في المفاوضات والتوقيع أيضاً، لكن ذلك لم يحدث.
أمام هذه الحقيقة الدامغة ما كان أمام روسيا سوى الاستباق بتأمين خاصرتها البحرية الجنوبية، وهي جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي، معتمدة على مبررات قانونية، مثل حق جمهوريات الحكم الذاتي في تقرير مصيرها بناء على استفتاء شعبي، وحق روسيا في النظر إلى نتائج الانتخابات بوصفها تجعل المؤسسة المحلية الحاكمة ممثلاً للشرعية الانتخابية الجديدة.
وهكذا جرى السيناريو بإيقاع متسارع ورشيق، كما خططت له موسكو، حتى أن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يجدوا أي ذريعة لرفض هذا الخيار بالمعنى القانوني للكلمة.
تالياً انتقلت الأزمة إلى شرق أوكرانيا، وها هو السيناريو ذاته يتكرر مجدداً، والسؤال الذي ينبري مباشرة يتجه لألمانيا وفرنسا، وما إذا كان بوسعهما رفض هذه المطالب، وهل يمكنهما تبرير ذلك قياساً بالمعايير السياسية الاوروبية الأكثر ليبرالية وانفتاحاً على حقوق المواطنة المتساوية، بشمولها الافقي الكبير؟