كيف يبدو المشهد الأميركي ـ الإسرائيلي في الأشهر الأخيرة؟ بالقطع يشهد اضطرابا غير مسبوق، لا سيما بين أوباما ونتانياهو المتعنت والساعي لإفشال مسار التسوية السلمية مع الفلسطينيين، ولذلك لم يوفر الأول التوبيخ والتأنيب للثاني، وبلغت الأزمة مبلغها بسبب عملية »الجرف الصامد« التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.

هل الإشكالية إذن، بين نتانياهو وأوباما فقط أم تتجاوزهما إلى ما هو ابعد؟ الواضح أن الأميركيين قد أصابهم الملل واليأس من السياسات الإسرائيلية الخرقاء، ولهذا فإن اختلال العلاقة بات يتجاوز اوباما شخصيا إلى أركان إدارته، مثل كيري، ثم إلى غالبية الأميركيين، سواء أعلنوا ذلك جهرا أو أضمروه سرا.

ويلفت النظر في الأزمة الأخيرة، ذلك الصمت الغريب من القيادات والزعامات والمؤسسات اليهودية في الداخل الأميركي، تجاه انتقادات البيت الأبيض لإسرائيل، والذي يرسم علامة استفهام عريضة حول نفوذ تلك الجماعات، وهل بدأ يضعف ويتآكل داخل أميركا بالفعل؟

المعروف تاريخيا أن الديمقراطيين هم الأكثر دعما لإسرائيل وسياساتها، وأكثر بكثير من الجمهوريين، وهذا ما يجعل جهود اليهود الأميركيين وتبرعاتهم تصب غالبا في مصلحة الديمقراطيين. في هذا السياق يستطيع المرء أن يفهم لماذا زايدت هيلاري كلينتون في الأيام الماضية، على باراك اوباما ومواقفه تجاه إسرائيل.

ففي حوار لها مع الصحافي المختص في شؤون الشرق الاوسط »جيفري غولدبرغ«، دعمت هيلاري بنسبة 100% الحملة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، ومواقف حكومة إسرائيل تجاه السلطة الفلسطينية.

وليس سرا أن هيلاري الديمقراطية الساعية للترشح للرئاسة بعد نحو عامين، تحتاج إلى تبرعات اليهود داخل أميركا بشكل كبير جدا، كما أنها تسعى إلى إبعاد نفسها عن اوباما وسياساته الخارجية.

لكن الثابت أن هذا الوضع قد تغير الآن بشكل واضح، وتراجع الديمقراطيين عن دعم إسرائيل لا تخطئه العين.. فما الذي جعل حكومة نتانياهو مقتنعة بأن الديمقراطيين قد أضحوا خطرا على إسرائيل اليوم؟ المؤكد أن جولة كيري المكوكية التي استمرت عدة أشهر، والتي ارتفعت فيها الأصوات الإسرائيلية منددة بمواقفه، كانت المنطلق للأزمة الأخيرة، ولهذا فقد عمدت إسرائيل إلى فكرة »الهروب إلى الأمام«، أي إشعال الموقف مع غزة للفرار من أية استحقاقات للسلام مع الفلسطينيين. لكن ما لم يتوقعه الإسرائيليون، والعهدة هنا على الراوي المحلل السياسي الإسرائيلي »ايزي ليبلر« من صحيفة »يسرائيل هيوم«، هو أن يطلب كيري استبدال الوساطة المصرية بوساطة قطر وتركيا، اللتين تدعمان حماس بحسب الرؤية الإسرائيلية.

لقد باتت إسرائيل مضطربة إلى أبعد حد ومدى من كلمات ومواقف اوباما وإدارته، لا سيما الخارجية التي »نددت« بسقوط ضحايا مدنيين فلسطينيين، لكنها اعتبرت أن آلاف الصواريخ التي أطلقتها حماس »عمل غير مسؤول«، والمقاربات هنا تبين مدى الاحتقان في تل أبيب ناحية واشنطن.

وتأخذ إسرائيل على أوباما انه طالب برفع الحصار عن غزة دون التطرق إلى المطالب الأمنية للدولة العبرية، الأمر الذي اعتبرته حكومة نتانياهو أمرا سيؤدي في النهاية إلى شيطنة إسرائيل، وسيشجع حماس على الاعتقاد بأن استمرار الحرب وسقوط مدنيين، سيقود إلى تدخل دولي يجبر إسرائيل على الموافقة على مطالبها... لماذا الصمت من اللوبي اليهودي الداخلي في أميركا؟ في مثل هذه المواقف كانت الأيباك والـADL »اللجنة اليهودية لمكافحة التشهير«، وغيرهما من المؤسسات الداعمة لإسرائيل، تصدع الرؤوس ضد ساكن البيت الأبيض.. جرى ذلك مع بوش الأب في قضية التمويلات العقارية للمستوطنات، وكلفه الأمر هزيمة قاسية أمام بيل كلينتون، لكن هذه المرة فضلت الزعامات التزام الصمت تجاه أوباما.. لماذا؟

على ما يبدو فإن هناك أكثر من سبب مبرر، في مستهلها حالة الضعف العام جراء الانشقاقات، مثل ظهور حركة »جي ستريت« التي ترى أنه لا بد من تقويم المسار الأعوج للسياسات الإسرائيلية، التي ستقود الإسرائيليين إلى مآزق وجودية لا حدودية.

أضف إلى ذلك اليقين الراسخ عند تلك الزعامات، بشأن فكرة أن المزيد من المواجهة سيؤدي إلى مزيد من الاستقطاب، الذي يمكن بدوره أن يجعل بعض المشرعين الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي يتخلون عن دعم مواقف حكومة إسرائيل لصالح الرئيس أوباما.

والمؤكد أيضا أن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، تلعب دورا فاعلا في المشهد، لا سيما إذا أدى هجوم الزعامات اليهودية على الديمقراطيين إلى خسارة أغلبيتهم في مجلس الشيوخ، وساعتها لن يكون لدى أوباما ما يخسره، إذ سيتحول إلى إوزة عرجاء، وساعتها أيضا لن يمنعه شيء من تكثيف ضغوطه على إسرائيل، ويضعها في موقف غير مسبوق منذ أزمة السويس عام 1956 وإنذار أيزنهاور الشهير.

يدرك يهود أميركا أن هنالك معركة دبلوماسية قادمة، بسبب رفض نتانياهو لعمل لجنة التحقيق الأممية في شأن ما جرى في غزة، الأمر الذي سيضعف مواقفهم أمام الرأي العام الأميركي، ولذلك باتوا يرون أن الدبلوماسية الهادئة وتعزيز العلاقات مع الكونغرس أفضل كثيرا من الهجمات الدعائية والصخب الإعلامي.

وفي كل الأحوال فإن المحصلة النهائية تفيد بأن حالة من التآكل السريع تجتاح ذلك اللوبي، وخصما هائلا من رصيده حادث ولا شك، فرجل الشارع الأميركي لم يعد قابلا أو قادرا على دعم إسرائيل ظالمة أبدا، غير مظلومة بالمرة، إلى ما لا نهاية.