هناك مقولةٌ تتكرّر في الدول الغربية، تحاول ربط الظاهرة الإرهابية المعروفة الآن باسم عدة جماعات »إسلامية« بالدين الإسلامي نفسه، أو بأسباب محدّدة فقط كغياب الديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية، والفقر الاجتماعي وانعدام فرص العمل في هذه المجتمعات، بينما نجد مقولةً أخرى، مصادرها عربية وإسلامية، تعيد في تفسيرها لظاهرة التطرّف العنفي، إلى مسؤولية الغرب وسياساته كسببٍ يدفع هذه الجماعات لاستخدام أسلوب العنف المسلّح ضدّ المدنيين والأبرياء، ومن أجل تنفيذ أجندتها الفكرية والسياسية.

وفي المقولتين إجحافٌ لكامل الحقيقة، وقصور عن الرؤية الشاملة للواقع. فالمقولة الأولى (الغربية) تحاول أن تنفي مسؤولية الغرب عن »ظاهرة الإرهاب«، وتعيد المشكلة فقط إلى أوضاع داخلية في الدول العربية والإسلامية، بل إنّها لا تشير إلى مسؤوليتها في هذا الجانب »الداخلي«، رغم حقيقة هذا الأمر عملياً منذ مطلع القرن العشرين.

ثمّ كيف يفسّر أصحاب هذه المقولة الغربية، ما حدث في عدّة ولايات أميركية من أعمال إرهابية كانت خلفها جماعات إرهابية أميركية، غير عربية وغير إسلامية، رغم وجود الديمقراطية في أميركا؟ وهل يمكن وسم هذه الممارسات الإرهابية بانتماءات دينية أو »ولايتية« أو عرقية؟ وكيف يفسّر الأوروبيون ما كان يحدث في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وإسبانيا من عمليات إرهابية يقوم بها أتباع لجماعاتٍ متطرّفة، وبعضها كان يمارس العنف المسلّح بأسماء دينية، أو بطابع »وطني تحرّري« مثل »الجيش الجمهوري الايرلندي« في بريطانيا وجماعات »الباسك« في إسبانيا؟!

أمّا المقولة الأخرى (الشرقية)، فهي أيضاً تحاول التملّص من مسؤولية الذات العربية والإسلامية عن بروز ظاهرة التطرّف و»الإرهاب«، وترفض الاعتراف بالأزمات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في هذه المجتمعات.

فما يحدث الآن في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وما حدث في لبنان ومصر والجزائر والسودان، وفي عدّة بلدان قبل ذلك، من أعمال إجرام وعنف دموي باسم الإسلام، ضدّ مواطنين مسيحيين ومسلمين، هو نوعٌ من الجرائم التي لا يمكن تبريرها ولا يجوز السكوت عليها، حيث السكوت عن هذه الأعمال هو تشجيعٌ لها ولو عن غير قصد.

فالقتل العشوائي لأناسٍ أبرياء هو أمرٌ مخالف لكلِّ الشرائع السماوية والإنسانية، وهو يتكرّر رغم ذلك في أكثر من زمان ومكان، ولا نراه يتراجع أو ينحسر، وفي ذلك دلالة على انتشار الفكر المشجّع لمثل هذه الأساليب الإجرامية.

وتزداد المأساة استفحالاً حينما يعطي بعض المحلّلين السياسيين الأعذار لهذه الجماعات ولأعمالها، أو تبريراً لها من خلال استعراض الأزمات القائمة في المجتمعات، وكأنّ الحرام يصبح حلالاً لمجرّد وجود مشاكل اجتماعية أو سياسية في هذا المكان أو ذاك!

إنّ اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرةً خطرة على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافّة المجتمعات التي يعيشون فيها.

وهذا أمر يضع علماء الدين أولاً أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها. وهي مشكلة غياب المرجعيات الفكرية الدينية التي يجمع الناس عليها، وتحوّل الأسماء الدينية إلى تجارة رابحة يمارسها البعض زوراً وبهتاناً.

لقد أصبح العنف باسم الدين أو المذهب ظاهرة بلا ضوابط، وهذا نراه في مجتمعات تسعى للتغيير، لكن أمور هذه المجتمعات تسير من سيئ إلى أسوأ. فالتغيير القائم على العنف المسلّح وقتل الناس العشوائي، يؤدي حتماً إلى تفكّك المجتمعات والأوطان، وإلى صراعات أهلية دموية نرى نتائجها الآن في مشرق الأمّة العربية ومغربها.

إنّ الشعوب العربية والإسلامية تعاني منذ عقودٍ طويلة من مشكلة خلط أميركا وإسرائيل، ودول الغرب عموماً، ما بين حقِّ المقاومة المشروع ضدّ الاحتلال وبين أسلوب الإرهاب المنبوذ ضدّ المدنيين أيّاً كانوا. وها هي ممارسات وأفكار بعض الجماعات المسلّحة العاملة بأسماء عربية وإسلامية، تخدم هذا الخلط والغايات المرجوّة منه.

لذلك، فإنّ الموقف المبدئي الرافض لهذه الأساليب أينما كان، هو المطلوب الآن. إنّ التطرّف يغذّي بعضه البعض الآخر، رغم التناقض في الشعارات وفي الأهداف. ونشأة هذه الجماعات العنفية العاملة بأسماء إسلامية، هي أصلاً نشأة مشبوهة ولدت في رحم المخابرات الأميركية كما تخدم الآن المشروع الإسرائيلي في المنطقة.

فللأسف، هناك عربٌ ومسلمون يقومون حالياً بخوض »معارك إسرائيليّة«، وهم يحقّقون كل ما يندرج في خانة »المشاريع الإسرائيليّة« للمنطقة؛ من تقسيم طائفي ومذهبي وعرقي يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة، ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة لصالح فئاتٍ تستفيد من فتات الأوطان، فتقيم دويلاتها الفئويّة الخاصّة ولو على بحرٍ من الدّماء.

نعم، هناك بلا شك مسؤولية غربية وأميركية وإسرائيلية عن بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء »إسلامية«، لكنّ ذلك عنصر واحد من جملة عناصر أسهمت في تكوين وانتشار هذه الظاهرة.

ولعلّ العنصر الأهمّ والأساس في وجود ونمو ظاهرة العنف باسم الإسلام، هو العامل الفكري ـ العَقَدي، حيث تتوارث أجيال في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، مجموعةً من المفاهيم السلبية الخاطئة التي تتعارض مع أصول الدعوة الإسلامية.