منذ فجر التاريخ ابتلي الإنسان بالحروب المقرونة بالأوهام والتقديرات الخاطئة، وفي كل حرب من تلك الحروب كان الجميع يخسرون، حتى أن مفهوم النصر والهزيمة يتحول إلى مجرد وبال مؤكد على الطرفين المتقاتلين، فلا المنتصر منتصر، ولا المهزوم مهزوم.. والشاهد أن الطرفين يتناوبان أدوار الفناء والبقاء، بحيث لن يبقى طرف، ولن يفنى الآخر.
قد يبدو هذا القول فلسفياً بيزنطياً، لكنها الحقيقة الشاخصة، تلك التي تعيدنا إلى استذكار ما كان من أمر الحروب على مدى التاريخ، والحروب العربية البينية تحديداً، كما حدث في لبنان أثناء الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عاماً، حيث تقاتل الفرقاء وتمازجوا مع الحسابات الإقليمية والدولية، وتحول لبنان إلى ساحة حرب بالوكالة، تماماً كما يحدث الآن في العراق وسوريا، ويترشح له اليمن.
تمادت الحرب الأهلية في لبنان، وزاد الغلو والغلواء، لكنهم في نهاية المطاف وجدوا أنفسهم مجبرين للجلوس على مائدة الحوار ثم التوافق.. لكن توافق ما بعد الحرب بدا مخاتلاً كذاباً، فالمراتبية التي استتبعت توافق ما بعد الطائف، عنت وتعني تكريس الطائفية، مع كامل الاستتباعات الاستيهامية التفصيلية القاتلة لمعنى الهوية المشتركة والمواطنة القانونية.
وفي العراق تمَّ تعميم النموذج اللبناني ذاته، لكن الحالة العراقية اختلفت في إيقاعها ومصائرها عن الحالة اللبنانية، بالنظر لتعقيد المكونات الدينية والإثنية والطائفية العراقية، قياساً بلبنان، كما أن البلاتفورم العراقي يتَّسع لحروب عظمى بالوكالة.. وفي الصومال تقاتل فرقاء المتاهة الدموية الأهلية عشرين عاماً، لكنهم في نهاية المطاف ارتضوا الحوار جبراً لا خياراً، والتوافق على قاعدة دولة فيدرالية لا مركزية.
يدفع العرب ثمن المكان التاريخي، ولا مفر لهم من ذلك، ولا يمكنهم مواجهة هذا الثمن الفادح، إلا بالأدوات الحكيمة ذاتها التي حولت أوروبا من قارة قتال وحروب كونية، إلى فضاء يتَّسع للجميع، على قاعدة المواضعات القانونية، والتكريس المؤسسي للنظام، واعتبار أن الدولة هي الأمينة على القوة القهرية، والسيادة القانونية.
على العرب التائهين في دروب البروفات البائسة، استذكار هذه الأمثلة التاريخية، ليعرفوا المغزى القاتم للحروب الأهلية، الكفيلة بإعادة إنتاج بؤسها ودمارها بمتوالية صاعدة. فالقابعون وراء ثقافة الحرب العدمية، سرعان ما يتحولون إلى أُمراء حرب اعتياديين، والجماهير الغفيرة التي وقعت في رثاثة الفقر الأسود، سرعان ما تتحول إلى وقود لنيران الحروب الحامية.
وعتاولة الإجرام والجهل سيتحولون إلى قياديين قتلة، على طريقة «روبسبيير» الذي حوَّل شعارات الثورة الفرنسية الكبرى إلى مقاصل وإعدامات ودماء تنزف. والجديد المريب في هذا الطريق يتمرأى اليوم في اليمن، حيث ينبري بعض فرقاء الأجندات السياسية القاصرة في رفع شعارات ديماغوجية، يبدو في ظاهرها الرحمة ولكن في باطنها العذاب.
يواجه اليمن هذا التحدي الكبير، فالشعارات المرفوعة من طرف القبائليين المُتعصبين والجماعات الدينية المتطرفة، تقدم نفسها كمشروع إصلاح للأوضاع، متدثرة بشعارات زاهية تكشفها ممارسات مغايرة جذرياً لتلك الشعارات. ولعل الحوثية السياسية الطائفية نموذج فولكلوري لمثل هذه الحالة،.
فاليمانيون الملتحقون بمتاهة الخطاب الديماغوجي، ليسوا في نهاية المطاف سوى رؤوس حراب يتخفَّى وراءها أصحاب المشاريع الصغيرة، القابعون في غرف الظلام الخفائية. يحق للحوثيين وغيرهم من مكونات سياسية واجتماعية، الولوج إلى المبارزة السلمية الحرة التي جاءت استتباعاً للتوافق الحكيم، والمبادرة الخليجية.
ومؤتمر الحوار الوطني الشامل.. تلك المحطات التي توفر الضمان الكامل للعملية السياسية في تحولاتها ومتغيراتها وآفاقها المفتوحة على كل الاحتمالات البناءة. لفرقاء الساحة اليمنية الذهاب مباشرة إلى خيار الحوار الذي لا خيار غيره، وإذا لم يلتقطوا هذه السانحة العاقلة، فإن خيار الصِّدام سيكون البديل القاتم، لكنه سيؤدي في نهاية المطاف إلى الحوار والتسوية، فلماذا نستبدل الأدنى بما هو أعلى، ونحن العليمون بالحرب ومعناها؟
أمام اليمانيين فرصة تاريخية لتأكيد حكمتهم التي أخرجتهم من محنة التقاتل العدمي قبل عامين، وبوسعهم استثمار الحالة الاستثنائية التوافقية عربياً ودولياً حول الشأن اليمني.. فلماذا يصر البعض على إعادة الموت والدمار؟