خلال السنتين الماضيتين، أثبتت التسوية السياسية التوافقية جدواها في اليمن، وأظهرت مغزاها العميق، ووضعت اليمانيين في مكانة أدبية متقدمة في العالم، فقد كان الاعتقاد السائد في زمن العاصفة التحوُّلية العربية، أن اليمانيين سيكونون أول المُتقاتلين في الساحة، وأنهم أقرب إلى متاهة الحرب الأهلية من غيرهم من البلدان العربية..

لكن لحظة من تاريخ الحكمة اليمانية عصفت بتلك الصورة الذهنية النمطية، وكان القبول الشجاع بالتعايش والاستجابة لنداء العقل، خياراً أثبت المعنى العميق لثقافة التنازلات المتبادلة من أجل المصلحة العليا للوطن.

ولم يكن هذا جديداً على تاريخ اليمن الذي عُرِف منذ قديم الزمان بأنه كان مستودعاً حضارياً لتعايش الأديان والثقافات. كما عُرف اليمن بالتحاقه الطوعي الجماعي بالتوحيد الصافي للدين الإسلامي، مُستنداً على كامل المقدمات الدينية التوحيدية السابقة على الإسلام، فيما كانت التعددية العقدية الدينية رافعة إيجابية في هذا الطريق، بدلاً من أن تكون عائقاً على درب النماء التوحيدي المنطقي.

وفي صدر الإسلام، أسهم اليمانيون في الفتوحات الإسلامية بقدر هائل من الحضور الحاسم، كما أورده ابن كثير في تاريخه، مُشيراً إلى أنهم شكَّلوا دوماً ميسرة الجُند في جيوش الفتح الإسلامي، ما يعني أنهم كانوا يُمثِّلون ثمانين في المئة من قوام جيوش الفتح. وفي مجال انتشار الدين الإسلامي التاريخي في آسيا الكبرى..

قدَّم المهاجرون والتُجَّار اليمانيون نموذجاً ساطعاً لحسن الخلق والأمانة والتسامح والتعايش مع تلك الشعوب، الأمر الذي جعل كبار السلاطين والملوك في إندونيسيا وماليزيا والهند والصين والفلبين، يلتحقون بالإسلام طواعية. وفي شرق أفريقيا وعمقها، كانت الطرق الصوفية القادمة من اليمن والمغرب الأقصى، النموذج الأميز للإسلام الأفريكاني المتواشج مع الشافعية والمالكية الوسطيتين.

وعلى ذات المنوال كان اليمن في أيام الفتن والهرج والمرج، حاضنةً لفرق الكلام الإسلامي بتنوعها واجتهاداتها، وكانت تلك الفرق الهاربة من جور مراكز الخلافة، تجد الملاذ والملجأ في اليمن.

هذا التطواف العابر على مدار التاريخ التصالحي في اليمن، يؤشر إلى تلك المقدمة السيكولوجية الهامة، التي جعلت فرقاء النظامين الملكي والجمهوري في شمالي اليمن، خلال ستينيات القرن المنصرم، يلتحقون بمشروع الدولة الجمهورية الجديدة، ويسهمون فيها من مواقع الفعل والمشاركة..

كما يفسر لنا كيف كانت الحروب بين دولتي الشمال والجنوب السابقتين، تنتهي دوماً بالتوافق والتكامل، حتى إن الوحدة اليمنية التي جاءت في لحظة فارقة من عام 1990، بدت تتويجاً طبيعياً لتاريخ من الصراع والحوار بين الشمال والجنوب.

وخلال الفترة التي تلت حرب 1994، لم يفكر أحد في اللجوء إلى ثقافة الاجتثات والتخلص الدموي من الخصوم السياسيين، بل مال ورثة المكيافيلية الإمامية التاريخية إلى «تذويب» المُختلفين معهم سياسياً، من خلال إرسالهم إلى بيوتهم، والحسنة إليهم برواتب متواضعة تتناهشها ديناصورات الفساد والإفساد المنظم، ما كانت له آثار سلبية وخيمة في الدولة والعملية السياسية برمتها.

المبادرة الخليجية التي جاءت في الوقت والمكان المناسبين، ما كان لها أن تحقق ذلك النصر السياسي اللافت، لولا التوافق اليماني الداخلي، مهما كانت أسبابه ومبرراته، وما كان للعملية السياسية التوافقية أن تستطرد على مؤتمر الحوار، وبطيوف الألوان السياسية المتعددة في تنوعها ومصالحها ومرجعياتها الواقعية والاستيهامية ليصلوا إلى الحالة التوافقية الماثلة..

لولا الحكمة والصبر المتوفِّران لدى بعض حكماء هذه الفرق المتناقضة. ومن لا يعرف الواقع اليمني، يتعجَّب من ذلك الشعب المُدجَّج بالسلاح حتى مخ العظم، والمقيم رغماً عن ذلك في تظاهراته السلمية، المقرونة باحترام المؤسسات الخاصة والعامة..

وعدم الاعتداء على المِلكيات والأفراد.. تلك التظاهرات التي تبدو في شوارع العاصمة والمدن الكبرى، كما لو أنها تنين بشري زاحف، بوسعه حرق الأخضر واليابس. ذلك الانطباع رآه الجميع أثناء الحراك الشعبي الكبير عام 2011، ويرونه اليوم بنصوع الصورة التي تُظهر قدراً كبيراً من الخصوصية المتأبِّية على منطق السلاح المجرد.. ذلك السلاح الذي نتمنَّى ألا ينطلق عشوائياً بأي حال من الأحوال.

ليس هذا ضرباً من التغنِّي بالحكمة اليمانية التاريخية، ولا هو استبعاد مؤكد للانزلاق المحتمل صوب المتاهة، ولا هو تبرير لما يجري من تعطيل متعمَّد لمصالح الناس، ولا هو قبول بذلك التخريب المباشر وغير المباشر لأداء الدولة ومؤسساتها، بل إنه تعبير عن أُمنية حقيقية موضوعية، تجمع بين المختلف والمؤتلف، وتجعل الخيار الحواري السلمي دالة المستقبل ومرئياته..

وتتجاوز ثقافة الاستقطاب والتعبئة الأيديولوجية القاصرة، المنافية لمنطق الدولة العصرية، وتسمح للحوثيين ومن يتعاطف معهم بالمشاركة السلمية في العملية السياسية، وفق الشروط التي ارتضوها وقبلوا بها وساروا على دربها ردحاً من الزمن. والخيارات العاقلة تتلخَّص في الاستجابة المنطقية للمطالب المشروعة التي لا يحتكرها طرف دون آخر، والذهاب نحو تسوية منطقية علمية للآليات السعرية والجبائية..

وتحسين موارد الدولة، بما يساعدها على تنفيذ التزاماتها الكبيرة، ومكافحة الفساد بمنظومة من التدابير واضحة المعالم، والذهاب إلى حكومة وفاق وطني تعتمد الإصلاح الشامل كخيار لا رجعة عنه، والتخلص من كوابح مراكز القوى وناهبي المال العام، ومطاردة أمراء الحرب القابعين وراء تجارة السلاح والقات والمخدرات والفواحش السياسية وغير السياسية. ذلك هو الدرب السالك للخروج من نفق الأزمة، ومنح الشعب اليمني المكانة التي يستحقها، وتعويضه عن سنوات البؤس والحرمان والتمييز، ولمثل هذا يتداعى العاملون المُجدون من أجل مصلحة الأوطان ومجدها.