ما زلت أذكر ما شاهدته منذ عقدٍ من الزمن على محطة «سي أن أن» الأميركية من تفاصيل شهادة كونداليزا رايس (التي كانت تشغل آنذاك منصب مستشارة الرئيس جورج بوش الابن لشؤون الأمن القومي) أمام لجنة من أعضاء الكونغرس الأميركي كانت تحقّق في أحداث 11 سبتمبر 2001..
حيث واجه أحدهم المستشارة رايس بتقرير مطبوع مرسل من وكالة المخابرات الأميركية إلى الرئيس بوش في شهر أغسطس 2001، أي قبل شهر تقريباً من وقوع الهجمات في أميركا. وكان عنوان التقرير: «القاعدة تهيئ لهجوم بالطائرات على نيويورك وواشنطن». وقد كان ذلك موقفاً محرجاً جداً للمستشارة رايس.
كانت إدارة جورج بوش الابن مسيّرة من قبل مجموعة من «المحافظين الجدد»، وفي مقدّمتهم نائب الرئيس ريتشارد تشيني، والذين كانوا يبحثون عن أعذار أمنية لتنفيذ أجندة سياسية داخلية وخارجية، من ضمنها غزو العراق وتغيير خريطة «الشرق الأوسط»، وبما يتناسب مع سياسة الحليف الإسرائيلي الأبرز لهم حينها، بنيامين نتانياهو.
أتذكّر الآن هذه التفاصيل عن مرحلة سابقة عاشتها الولايات المتحدة والعالم قبل 13 عاماً حيث كانت «الحرب الأميركية على الإرهاب» آنذاك مقدّمة لغزو أفغانستان، ثمّ للحرب الإسرائيلية التي قادها شارون في العام 2002 على منظمة التحرير الفلسطينية ومقر قيادتها في رام الله، ثمّ احتلال العراق في العام 2003، ثمّ اغتيال رفيق الحريري في لبنان، ثمّ الحرب الإسرائيلية على المقاومة في لبنان وغزّة في العام 2006. وهي كلّها تداعيات لما بعد أحداث سبتمبر 2001
الآن، إدارة أوباما بدأت تهيئ العالم لحربٍ جديدة على اسمٍ إرهابي جديد (داعش)، لكنّه نسخة «طبق الأصل» عن أصله «القاعدي» فكراً وممارسة، بل أشدّ إجراماً في الأساليب وأكثر نفاقاً باستخدام التسميات الدينية الإسلامية. فهل أميركا والعالم والمنطقة العربية أمام أيضاً «نسخة طبق الأصل» عن مشاريع الإدارة السابقة وأجنداتها الداخلية الخارجية؟!
أعتقد أنّنا أمام حالة معاكسة تماماً، فصحيح أنّ ما قامت به إدارة جورج بوش الابن قد أضّر كثيراً بالمصالح والثروات الأميركية، لكن مبرّره «الاستراتيجي» كان الإبقاء على القيادة الأميركية للعالم.
وماذا لو صحّ هذا «السيناريو» الآن: أجهزة المخابرات الأميركية، (تماماً كما حدث في صيف العام 2001)، أبلغت «البيت الأبيض»، منذ مطلع العام الجاري، بوجود نموّ متصاعد لجماعات «داعش» على الأراضي السورية والعراقية..
وبتقدّم عسكري لهذه الجماعات وبقرب اجتياحها لمناطق واسعة في العراق، لكن «البيت الأبيض»، وبعد جلسات طويلة مع عددٍ محدود من الأشخاص، بينهم وزير الخارجية جون كيري ووزير الدفاع تشاك هيغل، قرّر تأجيل أي ردّة فعل أميركية على هذه المعلومات، من أجل توظيف أفعال هذه الجماعات الإرهابية لصالح أجندة سياسية تريدها إدارة أوباما في السنتين الباقيتين من عهدها.
أجندة أوباما الخارجية تريد تحسين العلاقات مع إيران. تريد الانسحاب من أفغانستان مع حفظ التأثير الأميركي في هذا البلد والتحكّم بمساره السياسي، حتى لو اقتضى ذلك مستقبلاً صفقة مع حركة «طالبان».
وتريد حلاً سياسياً الآن للأزمة السورية، بعدما فشلت المراهنات على تغيير الحكم في دمشق من خلال، وحيث لا يمكن من دون البدء بحلٍّ سياسي للأزمة السورية تحقيق الاستقرار في لبنان وانتخاب رئيس جديد فيه، ولا أيضاً توفّر المناخ السياسي والأمني المرجو أميركياً للعراق، أو لتحقيق التقدّم في المفاوضات مع إيران.
أيضاً، أجندة أوباما الخارجية لم تتخلَّ بعد عن هدف إقامة «دولة فلسطينية»، وهي تريد تحقيق هذا الهدف قبل نهاية العام 2016 وربّما من خلال الدعوة لمؤتمر دولي شبيه بمؤتمر مدريد في العام 1991، وهذا يتطلّب تنسيقاً مع موسكو وطهران لضمان نجاح نتائجه.
وحتّى تتحقّق هذه «الأجندة الأوبامية»، فإنّ من المهم وجود «عدوّ مشترك» يجمع القوى المتناقضة إقليمياً ودولياً وفي المنطقة العربية، ويبرّر الكثير من الاتصالات مع «خصوم» الأمس، والحاجة لدعمهم في حربٍ أميركية مفتوحة أيضاً زمنياً (كما كانت حرب الإدارة السابقة)، لكنّها ستكون حرباً محصورة جداً مكانياً، وعلى إرهابٍ هو فعلاً مصدر أخطار كبيرة على أمم وأوطان وشعوب..
كما هو على مصالح دول وحكومات. لقد كانت حرب إدارة بوش على الإرهاب مقدّمة لتصدّع أوطان عانت وتعاني منها الكثير من البلاد العربية، ولم تتراجع إدارة أوباما عنها كثيراً في السنوات الماضية. ف
عسى أن تكون هذه «الحرب الجديدة» على الإرهاب مقدّمة لتصحيح مساراتٍ خاطئة في السياسة الأميركية، وعسى أيضاً أن تستفيد شعوب المنطقة وحكّامها من هذه الفرصة لإعادة وحدة نسيجها الوطني. وإذا صحّ هذا «السيناريو»، فإن الرئيس أوباما سيستحق في ختام فترة ولايته الثانية ما حصل عليه قبل قيامه بأي إنجاز في بداية عهده بـ«البيت الأبيض» من «جائزة نوبل» للسلام!