إسرائيل هي اليوم عبء مالي وسياسي كبير على أميركا وعلى مصالحها في العالمين الإسلامي والعربي، فلم تعد إسرائيل وشواطئها فقط هي المتاح الأساس للتسهيلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط (كما كانت في حقبةٍ طويلة في الحرب الباردة)، ولم تعد إسرائيل مصدر أمنٍ وحماية للمصالح الأميركية، بل إنَّ تلك العلاقة الخاصَّة معها أضحت هي السبب في تهديد مصالح واشنطن في بقعةٍ جغرافيةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي.
ولأنَّ واشنطن رفضت سابقاً دعوات عربية ودولية لعقد مؤتمرٍ دولي لتحديد مفهوم الإرهاب وللفرز بينه وبين حقِّ مقاومة الاحتلال، فإنَّ المفهوم الأميركي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره. فقد أعطى هذا المفهوم الأميركي للإرهاب شرعية أميركية للممارسات الإسرائيلية العدوانية المتكررة على الشعبين الفلسطيني واللبناني.
إنّ إدارة أوباما معنيّة حالياً بالرؤية الشاملة للصراعات الدائرة بالمنطقة، وحتماً فإنّ الملفّ الفلسطيني هو أساس مهم في هذه الصراعات رغم التهميش الحاصل الآن للقضية الفلسطينية.
نعم هناك صراع دولي/إقليمي على المنطقة العربية. نعم هناك محاور تتصارع الآن في منطقة الشرق الأوسط. لكن ما الذي أوصل المنطقة إلى هذا الحال من الصراع والتصعيد؟
المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأميركية السابقة التي وضعت غزو العراق، منذ مطلع العام 2001، في قمّة أولوياتها، وقبل الأعمال الإرهابية في أميركا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسرائيلي. فلو ضغطت الإدارات الأميركية في السابق على إسرائيل للانسحاب من الجولان والضفة والقدس وغزّة، ومن الأراضي اللبنانية كلّها، هل كان للمنطقة أن تشهد ما شهدته من تصعيد عسكري وتأزّم سياسي خطير في العقدين الماضيين؟!
لو تجاوبت إدارة بوش الابن بشكلٍ جدّيٍّ مع »مبادرة السلام العربية« التي أعلنتها قمّة بيروت عام 2002، وأقامت على أساسها مؤتمراً دولياً لتحقيق تسوية شاملة على كلّ الجبهات، وإعلان دولة فلسطينية مستقلة، هل كان لأمور المنطقة أن تتعقد وتتأزم كما جرى لاحقاً؟! إنّ غياب السلام الحقيقي يستحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسة حقّ مقاومته.
وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الدور الأجنبي الدولي والإقليمي.
وكم هو جهلٌ عربي كبير حينما يحصل هذا التهميش للقضية الفلسطينية حتّى في تفاصيل الأوضاع العربية الداخلية.
ولعلّ بعض الشواهد التاريجية مهمّة في هذا الحديث: عدوان ثلاثي إسرائيلي/ فرنسي/ بريطاني على مصر في العام 1956 لأنّ جمال عبد الناصر قام بتأميم شركة قناة السويس لأسباب داخلية مصرية.
أمّا في لبنان، فقد بدأت فيه حربٌ أهلية دامية وطويلة في العام 1975 ارتبطت بمسألة الوجود الفلسطيني على أرضه، الوجود المسلح وغير المسلح. فهل يمكن أن يشهد المشرق العربي استقراراً دون حلولٍ عادلة لحقوق الشعب الفلسطيني؟!
فلسطين هي جغرافياً في قلب الأمة العربية، وهي دينياً محطة الرسل والأنبياء، ومن يسيطر عليها يهيمن على مربط الوصل بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، ويتحكم بمصير الدول العربية الفاعلة المجاورة لها. لذلك كانت فلسطين هي البداية في »وعد بلفور«، قبل تقسيم المنطقة العربية في »سايكس بيكو« بمطلع القرن العشرين قبل مئة عام.
لكن مشكلة الرئيس أوباما الآن، في أجندته الشرق أوسطية، هي ليست مع خصومه الدوليين والإقليميين بل مع أقرب حلفائه الآن، فالأشد خطورة على إستراتجية التحرّك السياسي الأميركي الآن مصدره إسرائيل وما لديها من نفوذ سياسي وإعلامي مؤثّر في الولايات المتحدة وفي دول أوروبا.
وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو واضحاً وصريحاً في اعتراضاته على التقارب الأميركي/الأوروبي مع طهران، وأطلق التحذيرات العلنية من الوصول إلى اتّفاقات مع إيران حول ملفّها النووي، إذ انّ إسرائيل ترفض من حيث المبدأ وقف الصراع مع إيران، فكيف بتحقيق تفاهماتٍ دولية معها!.
إنّ إسرائيل تعمل منذ سنوات، على جعل أولويّة الصراعات في المنطقة مع إيران وحلفائها بالمنطقة، وعلى إقامة محور عربي/إقليمي/دولي تكون إسرائيل فيه هي الرائدة لإشعال حرب عسكرية ضدّ إيران ومن معها في سوريا ولبنان وفلسطين، فالمراهنة الإسرائيلية هي على تهميش الملف الفلسطيني وعلى كسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وعلى تفجير صراعات طائفية ومذهبية وقبلية تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة.
لذلك، من الصعب أن تخضع إسرائيل الآن للمطالبة الأميركية والدولية بوقف الاستيطان، وهي لن تقبل حتماً بتقسيم القدس ولا بحلّ قضية اللاجئيين ولا بإقامة دولة فلسطينية.
هو تباينٌ كبير حاصلٌ الآن بين إستراتيجية إسرائيل وبين أجندة أوباما التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأميركية أولاً.