السؤال المتعلق بمصائر التحولات العاصفة في المنطقة العربية، ما زال شاخصاً، كما لو أنه تنين قادم من أعماق المتاهة العربية التي طالت واستطالت، فحيرت المراقبين والمتابعين، وحتى القريبين من دوائر صنع القرار، فبات من المألوف أن تسمع الشكوى من كبار المسؤولين، وأن يصبح تبادل الاتهامات بين أفراد الحكومة الواحدة سمة ملحوظة، لكنك لن تجد من يرتقي إلى مستوى الشجاعة الأدبية ليتخلى طواعية عن مسؤوليته، رغم شكواه الدائمة من فقدان الصلاحيات، والعجز عن القيام بواجبه.
هذه الحقيقة تمتد أفقياً لتصل إلى رؤساء الوزراء، وحتى الرؤساء، وهي ظاهرة إن دلت على شيء، فإنما تدل على عجز مقرون بتمسك نفعي في مواقع السلطة والقرار، الأمر الذي يقتضي الاعتراف بأن ما جرى ويجري في أربعة أرجاء العالم العربي، تمخض عن وأد لحلم الملايين من جماهير الشعب التواق لمجتمع متوازن، لا يقع بين فكي الفجور المالي والفقر الرث، ولا يتردى إلى مستنقعات التعصب وردود الأفعال العنيفة، ورفض ماهية الدولة العربية القائمة.
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا الاستنتاج ليس حكم قيمة إطلاقياً، لكنها القاعدة نادرة الاستثناء، والاستثناء لا يرقى دوماً إلى مستوى الحكم التام، بحسب مقاربات المناطقة ورؤيتهم الثاقبة. ومن هنا نرى أن السائد عربياً لا يختلف عما كان عليه الحال قبل الانتفاضة الجماهيرية العفوية، بل يتزايد تفاقماً وحيرة.
ما سمي ذات يوم قريب بالربيع العربي، بدا وكأنه مؤامرة كونية صادرة عن قوة مهيمنة ومغالبة، وكانت الإشارة دوماً تتصل بالإدارة الأميركية الوريثة للريغانية السياسية الأيديولوجية، لكن هذه المؤامرة الافتراضية ما كان لها أن تأخذ مجراها لولا المقدمات الشاخصة في الكيان العربي المأفون بالفساد والمظالم، ولولا التماهي السلبي مع سدنة المغالبة الدولية الصادرة عن منطق عنفي براغماتي، لا يتورع عن إدارة حروب دائمة واختلاق السيناريوهات والأسباب الواهية لشن لتلك الحروب.
حدث ذلك بعد سيناريو سبتمبر الغامض، كما يحدث الآن في العتبة الثانية لمحاربة الإرهاب، المغلف بالدين الإسلامي زوراً وبهتاناً.
ما حدث في عالم التحولات العربية العاصفة، صدر عن تلك الضرورة التاريخية التي تمظهرت في صورة الصدفة.
وبهذا المعنى كانت صدفة تونس الأولى، بمثابة النابش لتلك الحقيقة العربية الأفقية، المتمثلة في وحدة الحيرة الجماهيرية، ووحدة السؤال الوجودي، ووحدة العنف المادي والنفسي في أرجاء العالم العربي.
وحالما تحولت هذه التراكمات إلى انتفاضة شعبية، كان من الطبيعي اختلاط الأوراق، وانكشاف المؤسسة الرسمية العتيدة، وتساقط القيادات كأوراق الخريف، وتباري الأجندات المحلية والإقليمية والدولية، أملاً في ملء الفراغ والهيمنة على الأوضاع.
حدث ذلك في كامل البلدان العربية الخارجة من رحم الثورة، والمعروف تاريخياً أن الثورات وقودها المواطنون البسطاء الشرفاء، ويرثها المجرمون والجبناء، ولا تؤتي ثمارها المرجوة بين عشية وضحاها، بل إنها تعيد إنتاج جنونها بمتواليات تأكل الزمن، وتستدعي التعصب، وتخل باللحمة الوطنية القادمة من حكمة التاريخ والجغرافيا.
لكن هذه الحقيقة لا تمنعنا من التسليم بموضوعية التغيير، بل جبريته القادمة من أخطاء وخطايا الأنظمة العربية التي أفقرت الملايين، وصادرت أحلامهم المتواضعة في حياة كريمة بسيطة، واستهانت بالعقد الاجتماعي العادل للأمة، وعبثت بالمال العام، لتنفرد حفنة من سعداء الوهم بما يأتيهم مجاناً، مقابل الملايين المشغولة بالبحث اللاهث عن الغذاء والدواء والكساء.
لم تكن انتفاضة الشارع العربي سياقاً خارجاً عن قانون التاريخ ودهائه، ولم تكن التدابير الانتقالية هنا وهناك قادرة على ردم الهوة الكبيرة بين الآمال الطيبة والحقائق التراجيدية على الأرض، ومن هنا، تناسخت المراحل الانتقالية العربية لتكشف جوهر المحنة واستتباعاتها الباهظة، مما نراه ماثلاً في سوريا وليبيا واليمن، وبما ينذر بمزيد من الدراما الحياتية الثقيلة. أسئلة الواقع العربي ستظل ناتئة بارزة، وخادشة لحياء التبريريين العائمين في بحار الوهم، والانسداد السياسي الماثل في كثرة كاثرة من بلدان العرب، برهان ساطع على ما نذهب إليه.