في هذا العالم المستنفر الآن لمحاربة الإرهاب، تعود «المسألة الإسلامية» من جديد لتكون في صدارة الاهتمامات الإعلامية في الغرب عموماً، ولتكون عنواناً لأي عمل إرهابي يحدث من قبل أي شخص مسلم، بينما توصف الأعمال الإرهابية الأخرى التي يقوم بها بعض غير المسلمين، بأنّها أعمال عنف إجرامية فردية! ومقولة «الإسلام والغرب» في التاريخ المعاصر طرحها الغربيون أنفسهم، فدعاة هذا الطرح في الغرب لا يستطيعون القول: دين مقابل دين، لأنّهم بأكثريتهم ينتمون لمجتمعات علمانية لا تقيم للدين دوراً في حركة المجتمع أو في تطوّره.

وبالتالي تختار هذه المجتمعات كلمة «الغرب» لتعبّر عن جملة خصائص.. فهي تعبّر أولاً عن مضمون اقتصادي (نظام الاقتصاد الحر)، وتعبّر عن مضمون سياسي (النظام الديمقراطي العلماني)، كما تعبّر عن مضمون جغرافي كان لفترةٍ طويلة رمزاً لحالة المواجهة في الحرب الباردة مع «المعسكر الشيوعي»، وتعبّر أيضاً عن كتلة لها مضمونها الأمني بما يُعرف بحلف الناتو أو حلف الأطلسي، وهي أيضاً ـ وهذا الأهم - تعبّر عن كتلة أصبحت لها مجموعة من المفاهيم الثقافية الخاصة بها، التي تريد تعميمها على باقي دول العالم، وهي ضمناً تعبّر أيضاً عن تراثٍ ديني هو مزيج من المسيحية واليهودية معاً.

طبعاً، كلمة «الغرب» لا يجب أن تستبدل بـ«المسيحية»، لأنّ هذا الاستبدال من شأنه أن يوقع الجميع في محظور يجب أن لا يقعوا فيه.

فمشكلة العالم الإسلامي ليست مع المسيحيين في الغرب، لأنّ العالم المسيحي نفسه عانى من صراعات دموية على المصالح بين حكّام دول «العالم الغربي»، الذين يسوّقون الآن في الغرب من جديد لفكرة الصراع بين الإسلام والغرب، يريدون فعلا بهذه الدعوة جعل الغرب كلّه في حالة جبهة واحدة ضدّ الإسلام كموقع جغرافي، وقلب هذا الموقع الجغرافي هو الوطن العربي. لكن في الغرب نفسه قوى تريد التقارب مع العرب والمسلمين، كما فيه قوى تريد العداء معهم. ليست هناك جبهتان: غربية وإسلامية، بل هناك كتل متنوعة وقوى متصارعة في كلٍّ من الموقعين.

ولقد مرّت الصورة المشوّهة للعرب والمسلمين في الغرب عموماً، بثلاث مراحل.. فهناك مرحلة ما قبل سقوط «المعسكر الشيوعي»، حيث كان التركيز السلبي على الإنسان العربي تحديداً (كهويّة قومية وثقافية دون التطرّق للبُعد الديني)، من خلال توصيفه بالإنسان الماجن والمتخلّف الذي يعيش في بلدان صحراوية ما زالت تركب الجِمال رغم ما تملكه من ثروات.

وفي هذه المرحلة جرى تجنّب الحملات السلبية على الإسلام أو المسلمين عموماً، بسبب تجنيد المسألة الدينية الإسلامية في مواجهة «المعسكر الشيوعي»، كما حدث في أفغانستان، وكما جرى في تحريك جمهوريات إسلامية في آسيا ضدّ موسكو الشيوعية.

المرحلة الثانية، التي بدأت مطلع عقد التسعينات، استمرّ فيها التشويه السلبي للهويّة القومية الثقافية العربية، لكن مع بدء التركيز أيضاً على الهويّة الدينية الإسلامية، حيث تجاوز التشويه العرب ليطال عموم العالم الإسلامي، باعتباره مصدر الخطر القادم على الغرب و«العدو الجديد» له بعد سقوط «المعسكر الشيوعي».

وفي هاتين المرحلتين، لعبت (ولا تزال) الجماعات الصهيونية وقوى عنصرية ودينية متعصّبة ومتصهينة، الدور الأبرز في إعداد وتسويق الصور المشوّهة عن العرب والإسلام، بدايةً لإقناع الرأي العام الغربي بمشروعية وجود إسرائيل (مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وبأنّ العرب شعب متخلّف ولا يمثّل الحضارة الغربية كما تمثلها إسرائيل! ثمّ أصبح الهدف في المرحلة الثانية، هو تخويف الغربيين من الإسلام والمسلمين كعدوٍّ جديدٍ لهم، وفي ظلّ حملة واسعة من الكتابات والكتب والمحاضرات عن «صراع الحضارات».

المرحلة الثالثة ظهرت عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 وما لحقها من أعمال عنفية في بلدان مختلفة، جرت تحت أسماء جماعات «إسلامية» وأصبح يُرمز إليها، اختصاراً لمفاهيمها وأساليبها، بجماعات «القاعدة»، رغم عدم تبعيتها لقيادة واحدة.

وهذه المرحلة تجدّد نفسها الآن من خلال ما قامت وتقوم به «جماعات داعش» من إرهاب ووحشية في الأساليب، تحت راية «الدولة الإسلامية»! وخطورة هذه المرحلة الثالثة أنها حوّلت ما كان مجرد كتاباتٍ في عقد التسعينات عن «العدو الجديد للغرب»، إلى ممارساتٍ ووقائع على الأرض، كان المستفيد الأول منها إسرائيل والمؤسّسات الصهيونية العالمية، وكانت إدارة جورج بوش الابن، هي الحاضنة والمنفّذة لكلّ السياسات التي وضعتها مجموعة من «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة، بل كان لرئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو دورٌ مباشر فيها آنذاك، من خلال ما يُعرف باسم وثيقة: «الانفصال عن الماضي: استراتيجية جديدة لتأمين الأمن»، التي صاغها في العام 1996 ثمانية من كبار «المحافظين الجدد»، وكان لهم القرار في الحرب على العراق، وفي إطلاق مقولة «الحرب على الإرهاب» في العالم الإسلامي.

وهناك وضعٌ مأساوي داخل عدّة بلدانٍ عربية، ممزوجٌ أحياناً بتدخّلٍ خارجي، وهناك عربٌ ومسلمون يخوضون «معارك إسرائيليّة» تحت رايات «وطنيّة» أو «عربيّة» أو «إسلاميّة»، وهم عمليّاً يحقّقون ما يندرج في خانة «المشاريع الإسرائيليّة» للمنطقة، من سعي لتقسيم طائفي ومذهبي وإثني، يهدم وحدة الكيانات الوطنيّة ويقيم حواجز دم بين أبناء الأمّة الواحدة.

طبعاً، تشويه الصورة العربية والإسلامية في الغرب، رافقته عاهات وشوائب كثيرة قائمة في الجسمين العربي والإسلامي، ولذلك فإنّ تصحيح الذات العربية والذات الإسلامية، يجب أن تكون له الأولوية قبل الحديث عن مسؤولية الغرب، مع أن العرب يتحملون دوراً خاصاً في ريادة العالم الإسلامي، وعليهم تقع مسؤولية إصلاح أنفسهم وريادة إصلاح الواقع الإسلامي عموماً.