صحيحٌ أنَّ المجتمع الأميركي هو نسيج مركَّب من أصولٍ عرقيةٍ ودينيةٍ متعدَّدة، لكنْ هذا "الموزاييك" هو مصدر خطرٍ وضعفٍ أحياناً، كما هو سبب قوة أميركا وسلامها الاجتماعي. فالدستور الأميركي والقانون الأميركي لا يميّزان على أساس خصوصياتٍ دينية أو عرقية، لكن في الإعلام الأميركي وبعض المؤسسات والهيئات الأهلية المحلية في أكثر من ولاية، من هم يمارسون الآن هذا التمييز ضدَّ العرب والمسلمين، كما مارسوه أو يمارسونه ضدَّ أقلياتٍ أخرى في مراحل زمنية وأمكنة مختلفة.
ومن المهمّ الإشارة هنا إلى وجود فوارق بين الجالية العربية وبين الجالية الإسلامية في أميركا. فصحيح أنّ الجاليتين تنتميان إلى أصول وطنية ودينية وإثنية متنوعة، لكن أيضاً فإنّ حوالي نصف تعداد الجالية العربية (والرقم التقديري هو ما يقارب الأربعة ملايين) هم من أتباع الديانة المسيحية..
بينما أكثر من نصف عدد الجالية الإسلامية (حوالي 8 إلى 9 ملايين) ينتمون في أصول أوطانهم إلى بلدان غير عربية (من بلدان آسيا وإفريقيا غير العربية) إضافةً إلى عددٍ من الأميركيين الذين اختاروا الإسلام ديناً لهم ومعظمهم من الأميركيين الأفارقة.
أيضاً، هناك خصوصية تتّصف بها الجالية العربية في أميركا: فأفراد الجالية هم أبناء ثقافة واحدة لكن ينتمون إلى دول وأوطان متعددة، يأتون إلى أميركا، التي هي وطن وبلد واحد، لكن يقوم على أصول ثقافية متعدّدة.
ولهذه الخصوصية انعكاسات مهمّة جداً على واقع ودور العرب في أميركا. فهُم بنظر المجتمع الأميركي – وحتى المنطقة العربية- "جالية واحدة"، بينما واقع الأمر أنّهم يتوزّعون على "جاليات" عربية. وتنشط غالبية الجمعيات من خلال تسميات خاصة بالأوطان، بل بعضها يحصر انتماءه في أطر مناطقية من داخل البلدان العربية.
وقد أدّت هذه الخصوصية إلى كثير من المعضلات في دور العرب على الساحة الأميركية. فالتسمية النظرية هي: جالية عربية، بينما الواقع العملي في معظمه هو تعدّد وانقسام على حسب الخصوصيات الوطنية أو المناطقية أو الطائفية أحياناً، إضافةً طبعاً للصراعات السياسية التي تظهر بين الحين والآخر.
ولقد مضى أكثر من قرنٍ من الزمن على بدء الهجرة العربية لأميركا، لكن رغم ذلك، فإنّ واقع العرب في أميركا استمرّ كمرآة تعكس حال العرب في البلاد العربية. ولم يستفد العرب في أميركا بشكلٍ عميق من طبيعة التجربة الأميركية التي قامت وتقوم على الجمع بين تعدّد الأصول الثقافية والعرقية، وبين تكامل الأرض والولايات في إطار نسيج دستوري ديمقراطي حافظ على وحدة "الأمّة" الأميركية - المصطنعة أصلاً- وعلى بناء دولة هي الأقوى في عالم اليوم.
إنّ أكثر من نصف الجالية العربية هم من المسيحيين العرب، وأكثر من نصف الجالية الإسلامية هم من أصولٍ غير عربية. ولا يمكن وضعهم جميعاً (العرب والمسلمين في أميركا) في "سلَّةٍ واحدة" من النواحي الدينية والإثنية والثقافية. وقد حدثت، وتحدث، إساءات عشوائية ضدَّ البعض منهم لكنَّها إساءات فردية لا تميّز أصلاً بين عربيٍّ وغير عربي، بين مسلمٍ وغير مسلم، بل قد وصلت إلى حدِّ التعرّض في فترةٍ ما إلى أبناء جالية "السيخ" القادمين من أصول هندية والذين هم من غير العرب ومن غير المسلمين!
وصحيحٌ أنَّ المواقف والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الرسميين الأميركيين ترفض الخلط بين الإسلام والعرب من جهة، وبين "الإرهابيين" وجنسياتهم من جهةٍ أخرى، لكن بعض وسائل الإعلام الأميركية (العامَّة والمحلية) تبثّ في كثيرٍ من الأحيان ما هو مصدر خوفٍ وشكٍّ وريبة في كلِّ عربي وكلِّ مسلم في أميركا والعالم.
وهناك مخاطر قائمة الآن على العرب والمسلمين في أميركا والغرب حصيلة مزيجٍ مركَّب الأسباب. فالمجتمعات الغربية – والأميركي منها خاصَّة - تتحكَّم في ردود أفعالها السلبية الآن مشاعر الغضب من العرب والمسلمين منذ الهجوم الإرهابي الذي فاجأ العالم كلّه يوم 11 سبتمبر 2001، ثمّ ما تبع هذا الهجوم من أعمال عنف وإرهاب في أوروبا وغيرها خلال السنوات الماضية، وصولاً إلى ظاهرة "داعش" التي تشغل الآن العالم كلّه.
وحينما يكون المتَّهم (جماعات إرهابية بأسماء عربية وإسلامية)، فإنَّ الغضب الغربي سيتمحور حول كلَّ العرب والمسلمين أينما وُجدوا، ثم كيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما أضيف إليه ما زرعته لسنواتٍ عديدة أجهزة إعلامية (مسيَّرة من قبل جماعاتٍ صهيونية وعنصرية حاقدة) من زعمٍ حول "الخطر الإسلامي" القادم إلى الغرب!؟
وكيف سيكون أيضاً حجم هذا الغضب إذا ما صدر عن جهلٍ عام بالإسلام وبالعرب وبقضايا العرب والمسلمين؟ وكيف سيكون حجم هذا الغضب إذا ما اقترن بممارساتٍ سلبيةٍ خاطئة، قام ويقوم بها عدد من العرب والمسلمين حتى في داخل المجتمعات الغربية التي تعاني من تضخّم عدد المهاجرين إليها، وما يحمله هؤلاء المهاجرون الجدد (من مختلف بلدان العالم) من طقوسٍ وعاداتٍ وتقاليد ومظاهر لا تندمج سريعاً مع نمط حياة المجتمعات الغربية!
أيضاً، فإنَّ مشكلة المجتمع الأميركي تحديداً، أنَّ إداراته المتعاقبة في العقود الماضية كانت منغمسةً جداً في عدَّة قضايا دولية وفي أكثر من حربٍ خارجية حتى وصلت إلى حدِّ الانفراد بقيادة العالم، بينما المواطن الأميركي العادي كان أكثر جهلاً من أيِّ مواطن دولةٍ غربيةٍ أخرى بقضايا العالم، وبالجغرافيا وبالتاريخ، وحتى بالنسبة لتاريخ أميركا وجغرافيتها!
فالرفاهية الأميركية واتساع الأرض الأميركية وعزلتها الجغرافية عن باقي العالم، كلّها عوامل أدّت إلى عدم اهتمام الإنسان الأميركي العادي بما يحدث حوله في العالم، وإلى تقبّل ما تقدّمه له أحياناً الحكومات الأميركية ووسائل الإعلام من أكاذيب وتضليل، كمسلَّماتٍ حول "الآخر" .. في العالم الآخر!.
لذلك غاب التوازن لعقود طويلة بين مدى حجم التورّط الأميركي الرسمي في قضايا العالم، وبين مدى فهم المواطن الأميركي العادي لهذه القضايا ولما يحدث حوله في العالم، إلى حين صدمة 11 سبتمبر 2001 التي كانت بمثابة صحوة من غفوةٍ زمنيةٍ طويلة، لكن الصحوة حصلت بعد كابوسٍ مرعب أخلَّ بالتوازن الجسدي والعقلي والنفسي لعموم الأميركيين.
هنا تصبح المسؤولية في التعامل مع هذا الواقع الأميركي ( والغربي عموماً) مسؤولية مزدوجة على الطرفين: العرب والمسلمين من جهة، والأميركيين والغربيين من جهةٍ أخرى.
فكلُّ الساحة مفتوحة لأبناء "السوء" لبثِّ سمومهم وأحقادهم على الإسلام والعرب، لكن أيضاً هي ساحة مفتوحة (ولو بظروفٍ صعبة) على "دعاة الخير" من العرب والمسلمين لكي يصحّحوا الصورة المشوَّهة عنهم وعن أصولهم الوطنية والحضارية.
وكما هناك العديد من الحاقدين في الغرب وأميركا على العرب والمسلمين، هناك أيضاً الكثيرون من أبناء أميركا والغرب الذين يريدون المعرفة الصحيحة عن الإسلام والقضايا العربية من مصادر إسلامية وعربية بعدما لمسوا حجم التضليل الذي كانوا يعيشونه لعقود.
وإذا كان الغرب تحكمه الآن حالة "الجهلوقراطية" عن الإسلام والعرب والقضايا العربية، فإنَّها فرصة مهمَّة (بل هي واجب) على العرب والمسلمين في الغرب أن يتعاملوا مع هذه الحالة (بأسلوب الحوار الهادئ والمقنع) لاستبدال "الجهلوقراطية" الغربية بالمعرفة الفكرية السليمة عن الإسلام والعرب.
لكن "فاقد الشيء لا يعطيه"، لذلك هي أولوية موازية لأولوية أسلوب الحوار مع "الآخر"، بأن يعمل العرب والمسلمون في أميركا والغرب على تعميق معرفتهم بأصولهم الحضارية والثقافية..
وعلى الفرز بين ما هو "أصيل" وما هو "دخيل" على الإسلام وعلى الثقافة العربية. كذلك، فمن المهمّ التشجيع على أسلوب الحوار الدائم بين المؤسّسات والهيئات العربية والإسلامية في أميركا والغرب، وبين غيرها من المؤسّسات في هذه المجتمعات، إضافةً إلى الحوار المباشر مع المجتمع نفسه عبر الإعلام والندوات والإنترنت واللقاءات الخاصَّة.
وكلّما كان هناك طرح لفكر عربي سليم فيما يتعلق بمسألة الهوية تعزّزت معه إمكانات هذه الجالية في أن تنجح عملياً وبأن تتجاوز كثيراً من الثغرات.