رغم وجود عدد من الدول الأعضاء في حلف الناتو ضمن التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم داعش في العراق وسوريا، إلا أن الحلف نفسه ليس منخرطاً بشكل رسمي في هذه الحرب. والحقيقة أن ذلك يرجع لرغبة الغرب الذي يحتضن الناتو، في انخراط أكبر عدد من دول المنطقة في هذا التحالف، تجنباً لنشوء حساسيات وتخوفات سبق أن رافقت تدخلات هذا الحلف في مناطق عديدة.
من جانب آخر، يحرص الغرب على عدم زج الحلف في مهام غير تلك التي تأسس أصلا لأجلها، وهي الدفاع عن مصالحه ضد أي تهديد عسكري أو اقتصادي أو ثقافي. هذا إضافة إلى أنه لا يرغب في الدخول في مماحكات ومناكفات سياسية ودبلوماسية مع كل من روسيا والصين، خاصة وأن ما تبقى من قوات الناتو على وشك الانسحاب من أفغانستان. فعلى مستوى العمليات الميدانية..
فإن القوات التي تخوض القتال في ساحات المعارك، هي الجيش العراقي والبيشمركة الكردية وقوات الحشد الشعبي وبعض العشائر في المنطقة الغربية من العراق. أما الغطاء الشرعي لهذه الحرب فتوفره مشاركة عدد من الدول العربية، وتأمين معظم المتطلبات اللوجستية.
الناتو، وهو الأداة الضاربة للغرب، يلعب دورا هاما في ما يجري من حراك في منطقة الشرق الأوسط، رغم عدم ظهوره في الصورة. فهذه المنطقة لا يمكن للغرب أن يستبعدها من استراتيجية سياساته، فهو الذي عرف خباياها ورسم معالمها وله مصالح متشعبة فيها، خاصة أنها المصدر الأكثر أهمية لتزويده بالنفط.
فقرار تشكيل التحالف الدولي الذي كانت نواته عشر دول أعضاء في الناتو، قد صدر عن اجتماع قيادات الحلف في قمتهم التي عقدت في مدينة نيوبورت في مقاطعة ويلز البريطانية، في الرابع والخامس من سبتمبر المنصرم، وضم فيما بعد عددا من الدول العربية، وفق تخطيط مسبق للحلف.
فالتحالف الدولي ضد تنظيم داعش، هو تحالف عسكري سياسي بين الناتو وعدد من الدول العربية، ومن المرجح أن تكون له أدوار أخرى في المنطقة في مرحلة ما بعد داعش. فالحرب على الإرهاب لا يمكن أن تختزل بمطاردة وهزيمة هذا التنظيم، خاصة أن مصطلح الإرهاب فيه الكثير من المرونة التي تتقبل التأويل.
الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، يحرص على أن يضفي قدرا من الشرعية الدولية على الحروب التي يخوضها، حتى في حالة عدم صدور قرار بذلك من الأمم المتحدة، لذلك يفضل أن يشرك أكبر عدد من الدول فيها. وقد سبق له أن شكل تحالفات مشابهة لتنفيذ مهام قتالية معينة تحت قيادته، منها التحالف الذي قام بتحرير الكويت بعد الغزو العراقي. وتحالفات من هذا النوع أكثر فائدة له، فهو في الوقت الذي يبعد فيه حلف الناتو من الانخراط في الحرب بشكل مباشر، يمنحه في الوقت نفسه اليد العليا في التخطيط وتوجيه مستقبل العمليات.
تصور البعض أنه لم يعد هناك ضرورة لبقاء حلف الناتو بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة وزوال حلف وارسو، إلا أن مهام الناتو لم تكن في الحقيقة لبناء توازن استراتيجي مع الحلف المناوئ، بل تعدت ذلك نحو تحقيق تفوق عليه. فمع نهاية الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو، أعاد الناتو هيكلة نفسه لمواجهة الواقع الدولي الجديد، ومقاربة ما يتطلبه من مسؤوليات لضمان عدم السماح بظهور قوة عظمى جديدة تصبح بمثابة تهديد كامن للمصالح الغربية على الأمد البعيد. فهناك تغير ملموس في العقيدة التي يتبناها الحلف..
حيث تخلى عن الاستراتيجية الدفاعية التي تبناها خلال حقبة الحرب الباردة، لصالح استراتيجية هجومية توسعية نحو الشرق بعد انتهائها. فقد عمل الحلف على ضم دول إلى عضويته كانت سابقا في حلف وارسو، وأقام تحالفات عسكرية سياسية بقيادته تتناسب مع متطلبات القرن الحادي والعشرين والحروب المتوقعة فيها، وهي حروب للسيطرة على الموارد وضمان استمرار تدفقها للغرب.
النظام الداخلي للحلف لا يجيز له التدخل العسكري في الحروب والغزوات والنزاعات الدولية خارج حدود القارة الأوروبية، فكانت آخر الحروب التي خاضها هي حرب البلقان في تسعينيات القرن المنصرم، وتفكيك الدولة اليوغسلافية وانفصال كوسوفو عن صربيا. وأولى الحروب التي خاضها الحلف خارج الحدود الجغرافية لأوروبا، كانت الحرب في أفغانستان.
والغرب يشعر بالقلق الشديد حول مستقبل نفوذه ودوره القيادي في منطقة الشرق الأوسط، بسبب ظهور قوى إقليمية لا يخفي بعضها تحفظاته على بعض سياسات الغرب، في حين لا يخفي البعض الآخر عداءه لهذه السياسات. ومن هذا المنظور يحرص الغرب على استعادة نفوذه، خاصة وأنه غير قادر على الاستغناء عن نفط المنطقة في المستقبل المنظور.
والحرب التي يقودها ضد تنظيم داعش، تمنحه قدراً من الأفضلية في تعامل دول المنطقة معه مستقبلا، على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية. وهناك جانب آخر على درجة كبيرة من الأهمية، وهو التكاليف الباهظة للحملات العسكرية، التي لا ترغب دول الغرب أن تتحمل بمفردها أعباءها، خاصة أن اقتصادات معظمها ليست متعافية وهي بحاجة لمن يسهم بكل أو بجزء كبير من هذه التكلفة، إذ يشير بعض التقارير الأميركية إلى أنّ الحرب ستكلّف مئات الملايين من الدولارات يومياً، رغم عدم اشتراك قوات غربية بريّة في القتال حتى الآن.