يتأزّم الإنسان والأمم، حين يصل الفرد أو الجماعة، في مواجهة مشكلةٍ ما، إلى حالٍ من العجز عن الإجابة عن سؤالين: ما الحلّ وما العمل؟

وعلى الرغم من التّحديات والمخاطر الكبرى الّتي تتعرّض الآن لها الأوطان العربيّة، متفرّقة أو مجتمعة، فإنَّ الإجابة عن السؤالين: "ما الحلّ" و"ما العمل" ما زالت متعثّرة على المستويين الوطني الداخلي، والعربي العام المشترك.

ربّما المشكلة هي في الفصل الحاصل بين السؤالين، وليست بالإجابة عنهما. فسؤال: "ما العمل"، داخل الوطن أو الأمّة، يقتضي أولاً الاتفاق على فهمٍ مشترك للمشكلة والواقع، ومن ثمّ تحديد الهدف المراد الوصول إليه، وهنا أهمية سؤال: "ما الحلّ؟".



المشكلة الآن على المستويين الداخلي والعربي العام هي في غياب الرؤية المشتركة التي منها تنبثق برامج "العمل" ومراحله التنفيذيّة.



أيضاً، هذان السؤالان يتطلّبان معرفة من هم المعنيّون بإعداد تصوّرات "الحل" ثمّ بتنفيذ "العمل" لتحقيق المرجو من الحلول والأهداف..

فهل هناك إجابات واضحة عن هذه القضايا؟



لعلّ أسوأ ما في الواقع العربي الرّاهن هو حال التمزّق على المستويات كلّها، بما فيها القضايا التي لا يجوز الفصل أصلاً بينها. فشعار الديمقراطيّة أصبح نقيضاً لشعار التحرّر الوطني أو مقدّمةً لحروبٍ أهلية! والولاء الوطني أصبح يعني تنكّراً للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاهتمامات الدينيّة أصبحت مدخلاً لصراعاتٍ طائفية ومذهبية!

ويرافق هذا الحال من التمزّق في القضايا والأهداف، رؤى خاطئة عن "المثقّفين العرب" من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه الرؤى تفترض أنّ "المثقّفين العرب" هم جماعة واحدة ذات رؤية موحدة، بينما هم في حقيقة الأمر جماعات متعدّدة برؤى فكرية وسياسية مختلفة، قد تبلغ أحياناً حدّ التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصّح على أساس جغرافي أو إقليمي، فالتنوّع حاصل على معايير فكرية وسياسية.

صحيحٌ أنّ "المثقّفين" هم الجهة المعنيّة بالرّد عن سؤال: "ما العمل"، وما يسبقه من أسئلة تمهيدية كسؤال: "ما الحل"، لكن الانطلاق من فرضيّة أنّهم كتلة عربية واحدة تعيش واقعاً واحداً وتحمل فكراً مشتركاً، هي فرضية خاطئة وتزيد من مشاعر الإحباط والعجز.

إن "المثقّف" هو وصفٌ لحالةٍ فرديّة وليس تعبيراً عن جماعة مشتركة في الأهداف أو العمل. قد يكون "المثقّف" منتمياً لتيّار فكري أو سياسي يناقض من هو مثقّف في الموقع المضاد لهذا التيّار، وكلاهما يحملان صفة "المثقّف"!

لكن من المواصفات العامة ل"المثقّف الذي يكون ملتزماً بقضايا وطنه أو أمّته"، الجمع لديه بين هموم نفسه وهموم الناس من حوله، كما الجمع عنده بين العلم أو الكفاءة، وبين الوعي والمعرفة بمشاكل المجتمع حوله. أي هو طليعة قد تنتمي إلى أي فئة أو طبقة من المجتمع، لكن تحاول الارتقاء بالمجتمع ككل إلى وضعٍ أفضل ممّا هو عليه.

إذن، إنَّ سؤال: "ما العمل" على المستوى العربي العام، يتطلّب للإجابة عنه وجود مثقّفين عرب يعتقدون أولاً بمفاهيم فكريّة تنطلق من القناعة بوحدة الهويّة العربية، ويشتركون في توصيف الواقع وإدراك أسباب مشاكله، ثمَّ يسعون لوضع رؤية فكريّة مشتركة لمستقبلٍ عربيٍّ أفضل بناءً على صورة "الحلّ" المنشود والبديل المرغوب للواقع المرفوض. عند ذلك يمكن لهذه الفئة من "المثقّفين العرب" أن تضع الإجابة السليمة عن السؤالين: "ما الحلّ" و"ما العمل" .

ولعلّ المدخل السليم لكل ذلك، هو إدراك مخاطر هذا الانفصام الحاصل بين الهويّة الثقافيّة العربيّة الواحدة، وبين الانتماءات الأخرى الّتي يتمّ وضعها الآن في حال تناقض مع الهويّة العربية المشتركة.

المشكلة هنا هي في غياب التنسيق والتواصل الدوري والتفاعل المشترك بين من هم فكريّاً في موقعٍ واحد لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات، بل في تنافسٍ أحياناً!

لذلك فإنّ توفّر القيادات والطلائع السليمة، المنزّهة عن الغايات الشخصية والمنافع الخاصة، سيكون الأساس للحركة السليمة التي يجب أن تنبع أيضاً من فكرٍ سليم... لكن للأسف هناك "أدوار" عربية كثيرة تبحث الآن عن "أبطال"، بينما نجد على أرض الواقع "أبطالاً" كثيرين يبحثون عن "أدوار" لهم!

صحيحٌ أنّ العرب لم يصلوا بعد إلى قاع المنحدر، وبأنّه ما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو "الهُويّات الإثنية" يمكن أن يكون هو ذاته، خلال الفترة القادمة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة. فقيمة الشيء لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه، والأمّة هي الآن عطشى لما هو بديل الحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة.

لكن من المهمّ الاتفاق أولاً على ضرروة نبذ أسلوب العنف المسلّح في أي عملية تغيير سياسي أو اجتماعي، إذ في غياب توفّر مقوّمات نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ أسلوبٍ عنفي لتحقيق التغيير سيتحوّل إلى أداة تفجير للمجتمع وللأوطان نفسها. فالصراعات الصحّية في المجتمعات تحتاج لضمانات التغيير الديمقراطي السلمي من قِبَل الحاكمين والمعارضين معاً.

ومن القضايا التي تشغل الآن العرب مسألة العلاقة بين الدين والدولة، بينما هناك حاجةٌ أولاً للتوافق المبدئي بين مختلف الاتجاهات الفكرية العربية على ضرورة الفرز والتمييز بين الجماعات التي تعمل تحت لواء أيَّة نظرية فكرية.

 فليس هناك مفهومٌ واحد لهذه النظريات حتّى داخل المعتقدين بها بشكل عام، ثمّ ليس هناك برنامج سياسي أو تطبيقي واحد حتّى بين الجماعات والحركات التي تتّفق على مفهومٍ واحد. هذا الأمر ينطبق على الجماعات "العلمانية" و"الإسلامية"، كما كان ينطبق على أتباع النظريات الشيوعية والرأسمالية، وعلى الموجود حالياً من "المحافظين" و"الليبراليين" في العالم كلّه. كذلك صحّت هذه الخلاصة على التجارب القومية العربية، حيث غابت وحدة المفاهيم الفكرية والحركية عن هذه التجارب.

فالموضوعية تفرض عدم وضع "الجماعات الدينية" كلّها في سلّةٍ واحدة (فكراً وممارسة)، كذلك بالنسبة للقوى "العلمانية".. وبالتالي عدم استخدام التعميم في التعامل مع أيَّة حالة.

إنّ فصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمَّة إلا بفعل القوة (مثال نموذج تجارب الأنظمة الشيوعية سابقاً). أمّا "فصل الدين عن الدولة" في تجارب الأنظمة الغربية فكان نسبياً..

حيث هو في فرنسا فصلٌ كامل حتى في السلوك السياسي والشخصي للحاكمين.. وهو في أميركا فصل بالممارسة الدستورية فقط.. ويختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأميركي حيث الملكة (أو الملك) هو رئيس الكنيسة أيضاً.. وهناك في إيطاليا، وفي بعض دول أوروبا الأخرى، أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني (الحزب الديمقراطي المسيحي) رغم اعتماد النظام العلماني في الحكم.

أمّا في يوغوسلافيا السابقة فلم ينجح الحكم العلماني الشيوعي فيها (لأكثر من نصف قرن) بإزالة العصبيات الدينية بين أطياف شعبها، حتّى بين الكاثوليك والأرثوذوكس، حيث شهدت في عقد التسعينات حروباً أهلية دينية أدّت إلى تقسيمها!



لذلك، فإنّ مشاكل ظاهرة التطرّف الديني لا يكون حلّها بالابتعاد عن الدين، بدلالة ظهور حركات دينية متطرّفة في أميركا وأوروبا رغم وجود الأنظمة العلمانية. إذ العلمانية، رغم أهمّيتها الدستورية في العالم المعاصر، ورغم الحاجة العربية للأستفادة من إيجابيات تجاربها، هي ليست وحدها الحل لمشاكل المجتمعات.



ولقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم، والعدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حلّ مشاكل دولها؛ كنظام بورقيبة في تونس..

والنظام العلماني لشاه إيران، وتجربة الحكم الشيوعي في عدن الذي انتهى بصراعاتٍ قبلية بين الحاكمين آنذاك. وهذه التجارب كلّها لم تحلّ مشكلة غياب الديمقراطية.. ولم تحقق مفهوم المواطنة السليمة.. ولم تحلّ مشكلة الحكم المفروض ضدّ الإرادة الشعبية.. ولم تحقّق التقدّم والعدالة الاجتماعية لشعوب هذه الدول.

إن الأوطان العربية بحاجة، إضافةً للتكامل فيما بينها، إلى إصلاحات جذرية على كلّ المستويات الفكرية والثقافية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.. وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع جوهر القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة لكيفيّة بناء الحكم والمجتمعات، وفي ذلك مسؤولية مشتركة لقوى عديدة قد تختلف على أمور كثيرة، لكنّها يمكن أن تشترك (فكرياً وعملياً) في إعداد وتنفيذ برنامج نهضوي جديد تحتاجه الأمَّة العربية كلّها، وفيه تكون الإجابة عن: ما الحلّ وما العمل!.