بناء على دعوة كريمة من مؤسسة التقدم العلمي في الكويت، ألقيت محاضرة في جامعة الكويت بتاريخ 18 نوفمبر 2014 بالعنوان المشار إليه أعلاه. ونظراً لطول المحاضرة، فقد رأيت أن أقدم في هذا المقال خلاصة لما ورد في تلك المحاضرة، وذلك لأهمية الموضوع بالنسبة للدول العربية في مجموعها.

لقد جاء عصر النفط نعمة هائلة لدول الخليج. ولكن العاقل هو من يعد العدة لما بعد النفط، وهذا لن يتحقق إلا إذا زادت المنطقة في إجمالها من قدراتها الاقتصادية الحقيقية وبما يمكنها من المنافسة في عالم لا يعترف إلا بالقادرين على المنافسة الإنتاجية. والمطلوب هو أن تقوم دول الفائض بدورها الرائد في نهضة المنطقة العربية.

وأحاول فيما يلى أن ألخص أهم النتائج التي تناولتها في تلك المحاضرة وذلك في عدة نقاط موجزة:

لعل النقطة الأولى هى ضرورة الاعتراف بأن الدولار لا يمثل فقط عملة الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما هو أيضاً عملة التداول العالمي. ومع مزيد من التقدم الاقتصادي وما يتطلبه من زيادة حجم الاندماج المالي والاقتصادي الدولي، فإن دور الدولار سوف يستمر، ولا يبرز في الأفق أي بديل سريع له، وإن كان من الممكن أن يبدأ هذا الدور في التراجع تدريجياً.

والنقطة الثانية، والتي ترتبط بما تقدم، أنه في ضوء قيام الدولار بدور العملة الدولية، فإن معنى ذلك أن العالم سوف يحتاج إلى الاحتفاظ بكميات متزايدة من الأصول الدولارية. ويترتب على ذلك أن تجد الولايات المتحدة نفسها في وضع عجز في ميزانها الجارى لتوفير الدولارات للعالم. فهي بذلك لا تختلف عن أي "بنك مركزي" يضطر إلى تحمل زيادة في مديونيته لتوفير النقود للاقتصادات المحلية.

ولكن على حين كانت الولايات المتحدة تحقق ذلك عن طريق زيادة استثماراتها الخارجية حتى بداية السبعينيات، فإنها بدأت منذ ذلك الوقت تزيد من عجز ميزانها الجاري وذلك بالعجز المستمر والمتزايد في الواردات الأمريكية وعدم مسايرة الصادرات لها. وفي نفس الوقت تزايد عجز الموازنة الأمريكية بشكل كبير. ومع تعدد الأزمات المالية ارتفع هذا العجز بشكل مبالغ فيه.

ونتيجة لهذه الزيادة الكبيرة في عجز الميزان الجاري الأمريكي من ناحية، وزيادة عجز الموازنة الأمريكية من ناحية أخرى، فقد زاد حجم الأصول المالية الأمريكية زيادة هائلة، ليس فقط نتيجة لزيادة الطاقة الإنتاجية بها، وإنما لتمويل العجوزات المتزايدة في الميزان الجاري والموازنة العامة. وهكذا، ارتفعت نسبة الأصول المالية في الولايات المتحدة إلى الناتج القومي الإجمالي بها، بأكثر من أربعة أضعاف خلال الفترة 1990-2001.

ورغم أن هذه ظاهرة عامة، إلا أن نسبة التزايد لهذه الأصول المالية في الاقتصاد الأمريكي، جاوزت بكثير المتوسط العالمي لزيادة الأصول المالية، وقد تضاعف حجم المشتقات المالية لأكثر من عشر أضعاف الناتج الإجمالي في أمريكا في أقل من عشر سنوات.

والنقطة الثالثة هى أن دول الفائض المالي النفطي ليس من صالحها، وربما ليس في مقدورها، أن تخفض حجم فوائضها المالية. فسلعة النفط هى سلعة إستراتيجية مطلوبة لاستقرار العالم اقتصاديا وسياسياً.

ومن ثم فإن أي محاولة منهجية لتخفيض الإنتاج المتاح من هذه السلعة الإستراتيجية، لن يقرر لها النجاح. وبالمقابل، فإن معظم دول الفائض الخليجي تخضع لقيود اقتصادية وسكانية تحد من قدرتها الاستيعابية لزيادة الإنفاق المحلى.

وهكذا، فإن استمرار هذه الفوائض لفترة زمنية غير قصيرة، أمر لا مناص منه. والمطلوب فقط هو اختيار إستراتيجية مناسبة لاستثمار هذه الفوائض، وبما يضمن حقوق الأجيال المستقبلة لما بعد النفط، مع الحرص على استقرار الاقتصاد العالمي.

والنقطة الرابعة، هى أن النفط، بالنسبة للدول المنتجة، ليس مجرد سلعة بل هو ثروة طبيعية نافدة، وأن عائدات هذه الثروة ينبغي أن تستخدم في استثمارات إنتاجية داخل دول النفط وخارجها بزيادة حجم الأصول العينية وليس بالمبالغة في تضخم الأصول المالية. بهذا فقط يمكن أن، نحمى هذه الثروة الاقتصادية، ويمكن فقط التصرف في عوائد هذه الاستثمارات، وسواء كانت هذه الاستثمارات محلية أو دولية.

والنقطة الخامسة، هى أننا لا نبدأ من الصفر. هناك تاريخ متراكم من الاستثمارات الخارجية للدول النفطية في السنوات السابقة، وينبغي العمل على حمايتها وضمان استقرارها.

وفي نفس الوقت النظر إلى المستقبل دون أن نكون رهينة للماضي. هناك استثمارات ضخمة متراكمة بالدولار، ينبغي الحرص على احتفاظها بقيمتها، وفي نفس الوقت عدم الوقوع في "فخ الدولار" بعد أن تزايدت أحجام هذه الاستثمارات، ونتذكر كلمة كينز الاقتصادي المشهور عندما قال: " إذا كنت مديناً للبنك بمائة جنيه فأنت في مشكلة، ولكن البنك سيكون في مشكلة إذا كنت مديناً له بمليون جنيه ".

فحين ذاك يصبح "الدائن" رهينة للمدين إذا زاد حجم الدين بشكل كبير. وهذا ما أصبح الوضع الحالي للمديونات المالية، فالمدين الأكبر في العالم هو الولايات المتحدة، وانحصر الدائنون الأساسيون في مجموعة صغيرة على رأسها الصين واليابان والدول النفطية.

وأخيراً تمثل دول العالم الثالث، وخاصة المنطقة العربية، مجالاً مهما للمستقبل الاقتصادي العالمي، بما تتطلع للتقدم واللحاق بالعالم المتقدم. ورغم ما تعانيه هذه الدول من مشاكل اجتماعية وسياسية وبالتالي اقتصادية، فإنها تمثل، إلى حد بعيد، معضلة كبرى تتراوح بين فرص وإمكانات للتقدم من ناحية، وخطورة الفشل وتهديد الاستقرار من ناحية أخرى.

فهي بكثافتها السكانية من ناحية، وإمكاناتها غير المستغلة من ناحية أخرى، فإنها تعتبر أخطر امتحان يواجهه العالم. فهي من جانب خطر على استقرار العالم، إذا استمرت في تخلفها، ولكنها من جانب آخر قد تكون فرصة أمل إذا ما أحسن استخدام طاقتها المعطلة وبحيث تمثل إضافة حقيقية للبشرية.

فإذا استمرت أوضاعها دون تحسن، فإنها ـ مع الانفجار السكاني ـ قد تصبح قنبلة زمنية موقوتة، تحرق الأخضر واليابس، إذا تفشت فيها ـ بسبب الفقر والجهل ـ القيم الجاهلية للتعصب وكراهية الغير وفلسفات الحقد والدمار. ولكنها، بالمقابل، قد تصبح إضافة إلى القدرات الإنتاجية لزيادة الرفاهية والأمل في المستقبل.

وبطبيعة الأحوال، فإن المسئولية الأولى، لإنقاذ هذه الدول والمناطق، هى لأبنائها ومواطنيها. ولكن هناك، أيضاً، مسئولية عالمية، على القادرين على توفير الفرص والإمكانات ـ وليس المساعدات والمعونات فقط ـ لتحويل هذه الطاقات العاطلة إلى طاقات منتجة.

الحاجة إلى مشروع حضاري:

هنا يثور التساؤل عن دور دول الفائض المالي، وكيفية استخدامه لصالح البشرية، بانتشال هذه الدول، أو بعضها لضمها إلى حظيرة الدول المنتجة والمسئولة. وفي هذا الصدد، فإن دول الفائض المالي في المنطقة العربية، قد يكون من مسئولياتهم الأدبية والإنسانية، الإسهام بدرجة أكبر في تنمية هذه المنطقة.

علماً بأنه إذا نجحت المنطقة العربية في أن تتحول إلى طاقة إنتاجية، تضيف إلى الأصول العينية الإنتاجية، في شكل استثمارات حقيقية، فإن المنطقة بأسرها سوف تصبح واحة للاستقرار والتقدم، وفي نفس الوقت، فإن الأصول السائلة حالياً في شكل أصول مالية، قد تتحول ـ عند استثمارها في المنطقة ـ إلى ثروة إنتاجية وأصول عينية، يمكن ـ على المدى البعيد ـ أن تكون الضمان الحقيقي لمستقبل الفوائض المالية العربية.

وهذا ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل هو مشروع حضاري شامل. ودول الفائض المالي العربي، مؤهلة للقيام بهذه المسئولية التاريخية. هذا رهان تاريخي، وليس مجرد مشروع استثماري. وبطبيعة الأحوال، فإنه ـ كأي مشروع تاريخي ـ لابد وأن يبدأ بداية تدريجية، بتحقيق قصص نجاح محدودة، ثم تتوسع ـ بعد ذلك ـ تدريجياً لتشمل عموم الوطن العربي.

وأنى أكاد ألمح في مساعدات دول الخليج لمصر في أزمتها الراهنة، بداية لهذا المشروع الحضاري. فعندما واجهت مصر، في إطار ثورات الربيع العربي، ما يمكن أن يهدد الوجود المصري ساعدت دول الخليج ـ بإحساس المسئولية ـ لمعاونة مصر في محنتها.

وأرجو أن تكون هذه خطوة على طريق النهضة العربية الاقتصادية، وحيث تقوم دول الفائض المالي العربي، ليس فقط بإقالة مصر ـ وغيرها من الدول العربية ـ من كبوتها، بل تكون خطوة في طريق الرهان التاريخي لإعادة الشرق الأوسط إلى سابق عهده في الإسهام الحضاري.

مسئولية تاريخية:

نخلص من كل ما تقدم، أن ظهور الفوائض المالية، هو نعمة كبرى ولكنها أيضاً مسئولية تاريخية، وتحتاج إدارتها إلى قدر كبير من الحكمة واتساع الأفق التاريخي.

فمن ناحية، هناك مصلحة كبرى في بقاء واستمرار هذه الفوائض تحقيقاً للاستقرار الاقتصادي العالمي، ومن ناحية ثانية تمثل هذه الفوائض تدعيماً للدول العربية والنهوض بها اقتصاديا واجتماعيا.

وإذا كان استمرار الفوائض المالية أمراً لا مناص منه، فإن المشكلة الحقيقية هي في كيفية توظيفه خارج الدول المنتجة للنفط وبما يحمى قيمتها في المستقبل.

كذلك لابد من الاعتراف بأن الدولار يمثل ـ ولفترة قادمة غير قصيرة ـ عملة التداول العالمي، وإن من مسئولية الدول النفطية العمل على استقرار الدولار حيث أن جزءاً غير قليل من ثرواتها المتراكمة موظف في الدولار وفي السوق الأمريكية.

ومع ذلك، فإنه من المناسب أيضاً أن تحرص دول الفائض النفطي على عدم المبالغة والتركيز في الدولار وحده، فتوزيع وتوزيع المخاطر هو أحد الأركان الرئيسية لحسن إدارة الأصول المالية.

ومع ذلك، فينبغي أن نتذكر أن الضمان الحقيقي لحماية ثروات الدول النفطية إنما يتحقق بقدر ما يصاحبها من زيادة في "الأصول العينية" على مستوى العالم. ومن الملاحظ أن السوق الأمريكية تتجه إلى المبالغة في إصدار "الأصول المالية" وبما يؤدى إلى تآكلها من ناحية، ويحول دون توظيفها في أصول عينية في مناطق أخرى لتزيد من الطاقة الإنتاجية العالمية من ناحية أخرى.

ورغم جميع مشاكل العالم الثالث، فإن مستقبل العالم يتوقف ـ إلى حد بعيد ـ على قدرة هذا الجزء من العالم للانضمام إلى الأسرة الإنتاجية، وذلك حتى لا يصبح هذا الجزء ـ وهو يمثل الكتلة السكانية الأكبر ـ خطراً على الاستقرار العالمي.

ومن حسن حظ دول الفائض المالي في المنطقة العربية  أنهم جزء من المنطقة العربية، والتي حملت لواء تقدم البشرية لعصور طويلة ثم تخلفت عن الركب، وآن الأوان لنهضتها من جديد.

وفي مثل هذه الظروف، فإن توظيف نسبة ـ متزايدة ـ من الفوائض المالية لدعم التنمية والتقدم الاقتصادي العربي، ليس فقط مسئولية قومية بل هو تأمين لمستقبل هذه الاستثمارات، إذا أحسن اختيار هذه الاستثمارات وبما يعود بالنفع على الدول المستقبلة للاستثمار والدول الخليجية المستثمرة.

وأخيراً، فإن ما قامت به دول الخليج من مساندة لمصر خلال أزمتها الأخيرة، قد يكون بداية لمشروع حضاري وتاريخي للنهوض الاقتصادي بالمنطقة العربية، على أن يبدأ ذلك بقصص نجاح محددة، باختيار منطقة أو أكثر في بعض الدول العربية، لإقامة "أقطاب اقتصادية" نموذجية، وبحيث تمثل نجاحاً في شكل متكامل يمكن تعميمه بعد ذلك.

ولابد أن تكون "البداية" مركزة، وأن تمثل نجاحاً ملموساً. وإذا نجحت التجربة في مراحلها الأولى، فإن ذلك يمكن أن يمثل نموذجا لسياسة عربية متكاملة لنهضة الأمة العربية في مجموعها. قد يبدو هذا الأمر خيالياً، ولكن صناعة التاريخ تتطلب الكثير من الخيال والمغامرة المحسوبة. والله أعلم.