قام الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الأسبوع قبل الماضي بزيارةٍ تُعد تاريخيةً لدولة قطر، واجتمع مع أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
أتت هذه الزيارة بعد فترةٍ عصيبةٍ عاشها البلدان في علاقتهما الثنائية، حيث كانت السبع أشهر الأخيرة أشهراً عجافاً في علاقة كل من الإمارات والسعودية والبحرين بقطر. لذلك أتت أهمية هذه الزيارة لكونها وضعت حداً لحال القطيعة التي كادت أن تصل إليها العلاقة بين تلك الدول.
لقد عبر سمو الشيخ محمد بن زايد بزيارته هذه عن إدراك صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بأن استمرار حالة الخلافات الخليجية لن تصب في صالح تحقيق الأمن والاستقرار لدول المنطقة.
فعلى الجميع تجاوز الخلافات لأن تحديات المرحلة أكبر بكثير من أن تواجهها دول الخليج وهي متفرقة. فالفرقة لن تُفيد إلا المتربصين بأمنِ المنطقةِ من جماعاتٍ إرهابيةٍ تسعى إلى الإضرار بأمنها واستقرارها.
هذه القناعة هي التي تُؤمن بها الإمارات، وهي التي ترجمتها زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد لقطر. إن هذه النظرة الثاقبة التي حملها سموه إلى قطر هي النظرة التي تعلمها من مدرسة والده، رحمه الله، واستطاعت أن تحصل على ثقة صاحب السمو رئيس الدولة وصاحب السمو نائب رئيس الدولة.
لا يخفى عليكم أن المرحلة الحالية التي تعيشها منطقتنا العربية تتطلب قادةً استثنائيين، يتمتعون بقدرات توازي حجم ما تواجهه المنطقة من تحديات؛ قادة يتجاوزون النهج التقليدي في السياسة الخارجية نحو أسلوب أكثر ذكاءً في التعامل مع المعطيات العالمية ذات التأثير الإقليمي، بحيث يصبحون جزءاً مِن مَن يقودُ المرحلة وليس مجرد متعاملٍ معها.
مثل هؤلاء القادة يكونون مؤثرين في مجريات الأحداث لا متأثرين بها، ويُخلدهم التاريخ على أنهم قادة المرحلة.
لذلك يذكر لنا التاريخ أسماءً عظيمةً في السياسة كان لها بالغُ الأثر في إحداث تغيراتٍ جوهريةٍ في مجريات السياسة الدولية أو السياسة الإقليمية في فترة معينة. ونفتخر أنه في دولتنا لدينا اليوم مثل تلك الأسماء التي سيُخلدها التاريخ، أنها قيادات استثنائية.
إن إيمان صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد بقدرة أخيه سمو الشيخ محمد بن زايد، وحكمة الأخير في التعامل مع التطورات في الإقليم جعلته يوليه الثقة التامة في الإشراف على إدارة دفة شؤون الدولة الخارجية.
لذلك كان حرص سمو الشيخ محمد بن زايد على أن تكون الإمارات حاضرة في مجريات الأحداث كطرف مسؤول. من هنا عمل على الدفع نحو إبقاء اللحمة الخليجية قوية وبعيدة عن كل ما يمكن أن يُضعفها.
وفي المنطقة العربية أصبح لدولة الإمارات دور واضح في تعزيز أمنها واستقرارها. فهي ليست على الإطلاق طرفاً مشاهداً لحالة ما تعاني منه المنطقة من أخطار حقيقية. الإمارات اليوم ليست كأي دولة عربية أخرى، بل هي أكثرها إدراكاً لما تتعرض له المنطقة من أخطار، وأكثرها استعداداً للمساعدة في مواجهة تلك الأخطار.
فمصر كادت أن تنجرف في ظلمات المجهول مع حكم تنظيمات دينية تحمل أجندات خطيرة على الأمن والاستقرار العربي لولا تدخل الإمارات وبقوة في دعم إرادة الشعب المصري في رفض ذلك التوجه، ومساعدته على بناء نفسه ووطنه بالشكل الذي يحميه كمواطن مصري يفتخر بانتمائه لوطنه. والكل يُقدر اليوم دور قيادة الإمارات في مساعدة حكومة وشعب مصر في تحقيق ذلك الهدف.
وعندما يأتي الأمر لمحاربة الإرهاب والتطرف فإن الإمارات رايتها بيضاء، فهي لا يمكن لها أن تكون متساهلة مع الإرهاب والتطرف أينما كان، لأنه وبكل بساطة لا يخدم الإنسانية، بل يخلق بيئات جديدة للاقتتال والعنف. لذلك لم تتوان الإمارات عن أن تقود في هذا المجال من أجل رفعة راية الاعتدال ومحاربة التطرف.
لقد أخذت الإمارات على عاتقها مهمة نشر فكر الاعتدال والتسامح والقبول بالآخر، وهو ما تفتخر به بفضل الله وجهد قيادتها. إن نشر فكر الاعتدال ـ هذه السمة الإنسانية الراقية ـ ليس بالأمر الهين. فلا يتوقع أن يقبل أولئك المتشددون الرافضون للاعتدال إنهاء فكرهم بسهولة، بل قد نجدهم مستعدين لرفع السلاح في وجه من لا يؤمن بفكرهم.
لذلك قد يتطلب الأمر الحزم في تنفيذ مبدأ محاربة الإرهاب والتطرف وذلك باستخدام القوة. وهو ما عبرت عنه الإمارات وبوضوح عبر مشاركتها في الحملة العسكرية لمحاربة الإرهاب والتطرف الديني في المنطقة العربية.
فالمرحلة الحالية هي مرحلة صراع بين فكرتين، فكرة التشدد والتطرف التي لا تتوانى عن استخدام السلاح ترويجاً لنفسها، وفكرة الاعتدال والتسامح والقبول بالغير والتي تؤمن بالعيش المشترك بين الجميع. إن مشروع الإمارات في سياستها الخارجية يميل لصالح الفكرة الثانية ويكره الفكرة الأولى.
وباعتبار أن الإمارات قد بنت نفسها على أسس هذه الفكرة فإنه لا يمكن لها أن تقبل بانتشار فكر التشدد لأن ذلك فيه تهديد للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة في تعاملها مع الآخر. إن العالم ينظر اليوم لدولة الإمارات ليس فقط لما حققته من إنجازات حضارية، وإنما أيضاً للدور القيادي الذي تقوم به لحفظ الأمن والاستقرار في المنطقة العربية.
وبالتالي فإن زيارة سمو الشيخ محمد بن زايد لقطر تأتي في إطار قطع الطريق أمام التنظيمات الإرهابية في تحقيق هدفها بإحداث الانشقاق في البيت الخليجي ومن ثم تهديد أمن واستقرار المنطقة العربية بأسرها. إن أكبر الخاسرين من هذه المصالحة الخليجية هو مثل تلك التنظيمات الإرهابية، وأكبر الفائزين هم الخليجيون الذين استعادوا لُحمتهم، والعرب الذين سيجنون ثمار هذه اللحمة.
والتحدي الأبرز هو في العمل على مواجهة المساعي التي يمكن أن تحاول مثل تلك الأطراف القيام بها لضرب المصالحة الخليجية أو الإضرار بها. ولكن في ظل وجود قادة يُغلبون المصلحة الخليجية على المصلحة الفردية فإن علينا التفاؤل في المستقبل.