لا شك أن تقرير الكونغرس الأخير بشأن أداء وكالة الاستخبارات الأميركية CIA بعد أحداث سبتمبر، يعتبر وصمة عار في جبين راعية الديمقراطية في العصر الحديث، فالتقرير الذي وقع في 6 آلاف صفحة، ولم ينشر منه سوى 480 صفحة لدواعي أمنية تمس الأمن القومي الأميركي والمصالح الأميركية، تضمن تفاصيل وطرقاً وحشية لجأت لها وكالة الاستخبارات الأميركية لنزع اعترافات ما كان لها أن تنتزع لولا الوقوع تحت وطأة التعذيب.

ففي ثنايا التقرير، تم ذكر تفاصيل مقززة وطرق تعذيب وحشية، استخدمتها وكالة الاستخبارات الأميركية للتحقيق مع المشتبه بهم بقضايا الإرهاب، وخاصة بعد أحداث سبتمبر 2001 م..

فالحرمان من النوم، والإبقاء على المحتجز مستيقظاً لمدة 180 ساعة، وواقفاً أو في وضع جسدي آخر يضع المحتجزين تحت حالة إرهاق عالية، مثل كون اليدين فوق الرأس، هذا غير أسلوب إيهام المحتجزين بالغرق، وهي الطريقة التي استخدمت في جلسة استجواب (أبو زبيدة)، وهو من قادة القاعدة، وكاد أن يموت بعد أن سقط بلا حراك، الأمر الذي استدعى تدخلاً طبياً عاجلاً.

أما السجين «رضا النجار»، فقد ترك في غرفة مظلمة لفترة طويلة في درجة حرارة دون الصفر، وهو عار من الملابس وإحدى يديه معلقه فوق رأسه، دون إمكانية قضاء حاجته مع تكميم عضوه التناسلي للحيولة دون قضاء حاجته، فقط لمحاولة كسر مقاومته وانتزاع اعتراف، وذكر التقرير أن «رضا النجار» من ضمن 26 شخصاً تم إلقاء القبض عليهم دون تهم موجهة ولا حتى دليل..

وأشار التقرير إلى أن برنامج التعذيب والاستجواب استنزف أكثر من 300 مليون دولار من الميزانية الأميركية، دون تحقيق أي نتيجة تذكر، بل إن أحد المتهمين، وهو العقل المدبر لعمليات سبتمبر «خالد شيخ محمد» عذب 183 مرة، وتم إيهامه بالغرق طوال فترة اعتقاله، وتمكن من تجاوز كل الأساليب دون أن ينتزع منه أي اعتراف..

وهو ما يعد فشلاً ذريعاً لبرنامج الاستجواب الذي لطالما تفاخرت به الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، وأتت الضربة القاضية لبرنامج التعذيب هذا، بعد أن تم الكشف عن معلومات دقيقة عن طريقة القبض على زعيم تنظيم القاعدة «أسامة بن لادن»، حيث أشار التقرير إلى أن المعلومات التي أتيحت للوكالة لم تأتِ من خلال برنامج التعذيب..

كما زعمت الوكالة سابقاً، بل إن الشخص الذي أدلى بمعلومات أدت إلى اعتقال «أسامة بن لادن»، اعتقل في العراق عام 2004 م، ويدعى «حسن غول»، وأنه أدلى بالمعلومات الحساسة من خلال أساليب التحقيق والاستجواب التقليدية.

وقال المدعي العام السابق في سجن غوانتانامو «موريس دافيس»، إن التقنيات والطرق التي استخدمتها وكالة الاستخبارات، والتي ذكرها تقرير مجلس النواب، تعتبر جرائم حرب، وخرقاً فاضحاً للاتفاق الدولي حول التعذيب، وعقّب على التقرير بالقول: «لم أكن مصدوماً بتفصيلات هذه الأساليب المستخدمة، كلنا سمعنا عن تقنيات الإغراق الوهمي، إلى جانب وسائل أخرى تم استخدامها مع المحتجزين، ولكن أعتقد أن ما كان صدمة للشارع، هو الأعداد التي خضعت لهذا البرنامج ومدى انتشاره».

المضحك في الأمر، أن التقرير صدر في نفس اليوم الذي يحتفل فيه العالم باليوم العالمي لحقوق الإنسان، وهي الحقوق التي صدّقت عليها الولايات المتحدة، ولطالما تشدّقت بالمحافظة عليها وتطبيقها، ومحاولة تصديرها لجميع الأمم، وهو الأمر الذي يثير الريبة والتوجس حول التزام الدول الكبرى بالمواثيق العالمية، وأن كل ما يوقع عليه يطبق على أرض الواقع، وهذا ما لم نره من خلال تقرير الكونغرس الأخير.

إن تقرير الكونغرس الأخير تضمن انتهاكات وجرائم ممنهجة، تصنف على أنها جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وهو الأمر الذي أكده المدعي العام السابق لسجن غوانتانامو، فمن خلال القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، يتضح لنا أن الولايات الأميركية لم تطبق أي بند من البنود التي أوصى بها مؤتمر الأمم المتحدة الأول في جنيف عام 1955 م، بل إن الولايات المتحدة (كما أكد التقرير)، قامت باعتقال أكثر من 26 شخصاً دون توجيه أي تهم لهم، ودون أي جريمة، بل إنهم عذبوا دون أي سبب واضح.

إن حرمان السجين من أبسط حقوقه وتعذيبه بطريقة قاسية ولا إنسانية، يعد انتهاكاً فاضحاً لاتفاقية مناهضة التعذيب التي اعتمدتها الجمعية العامة سنة 1984 م، وهي نفسها الاتفاقية التي تروج لها الولايات المتحدة الدول العربية عبر منظماتها الحقوقية التي تعمل تحت مظلة وكالة الاستخبارات الأميركية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذكر تقرير «هيومن رايتس ووتش»..

وهي الذراع الحقوقية لوكالة الاستخبارات الأميركية، عن حالات التعذيب والاختفاء القسري في الوطن العربي، أن السجون في الوطن العربي (وسمى دولاً بعينها)، تعاني من حالة فوضى كارثية، وأن هناك المئات من التقارير التي تفيد عن حالات اعتقال تعسفية، وحالات تعذيب لا إنسانية تمارس بشكل ممنهج في الوطن العربي، وما تقرير الخارجية الأميركية و«هيومن رايتش ووتش» عن مصر عنا ببعيد.

إن الحديث عن جرائم التعذيب والاعتقال التي تمارسها الدول الكبرى قد يطول، والحالات التي ذكرت ما هي إلى قطرة في بحر التناقض الذي تمارسه هذه الدول، بدعوى تصدير الحريات والديمقراطية، وما أحداث «فيرغسون» الأخيرة، إلا شاهد على كومة التناقضات التي نعيشها، وللأسف نتعايش معها.

أخيراً، نحن لا ندعي الكمال في دولنا، والمدينة الفاضلة كانت فقط في خيال أفلاطون، لكننا لم نتشدق بنشر الحريات، ولم نوزع صكوك الحقوق كما نشاء، ولم نخرب دولاً، ولم نطح بأنظمة فقط لكي نكذب على العالم بداعي «الديمقراطية».