لا شك أن العام الذي نودّع كان من أسوأ الأعوام بعنفه ووحشيته، إذ انتهى بجملة مجازر كان أكثرها همجية تلك التي نفذها الطالبانيون في مدرسة باكستانية، وراح ضحيتها أكثر من 140 تلميذاً.
وهكذا يتحول طلاب العلوم الدينية، كما تعني أصلاً كلمة «طالبان» باللغة الباكستانية، إلى مجرمين يقتلون الطلبة في قاعات الدرس، وتلك هي فضيحة التعليم الديني وكوارثه لدى هؤلاء في هذا الزمن الرديء، وفي بحر العام حدثت أحداث جسام، تجسّدت في صعود تنظيم «داعش» الذي استولى على قسم من أراضي العراق وسوريا، لكي يقيم عليها دولته الإسلامية المزعومة، وما رافق ذلك من أعمال التهجير والتنكيل والسبي والاغتصاب والقتل، لكل من يخالفهم الرأي والمعتقد، أكانوا مسلمين أو غير مسلمين.
تلك هي الحصيلة، ناهيك بالمسرح العربي، حيث العنف المستشري بات بمنزلة خبز يومي في أربع دول، هي سوريا والعراق وليبيا واليمن.
وفي لبنان ما زال هذا البلد معلقاً، بانتظار التسويات من الخارج، أما الدولة العربية الكبرى، مصر، وهي التي نجحت بحشودها الشعبية في إسقاط نظام مبارك، ثم إسقاط دولة «الإخوان المسلمين»، فما زالت تحارب الجيوب والبؤر الإرهابية التي لا تريد لمصر أن تنهض من عجزها وشللها، لكي تنصرف إلى أعمال الإصلاح والبناء.
وهكذا، فبعد أربع سنوات من اندلاع الثورات العربية التي أسقطت أعتى أنظمة الفساد والاستبداد، وفتحت الإمكان لبناء مجتمعات جديدة، تحت شعارات الحرية والعدالة والكرامة، تنتهي هذه النهايات الفاجعة. إذ ارتدّت القوى المضادة على الثورات تمعن فيها تشويهاً وتخريباً، ثم ركب الإسلاميون الموجة لكي يستولوا على السلطة، ظناً منهم أنهم بذلك يستعيدون الفردوس الإسلامي المفقود.
كانت النتيجة أن أخفقوا إخفاقاً ذريعاً وسقطوا سريعاً، إذ لا فردوس ها هنا إلا في أوهامهم، ولأن هدفهم لم يكن الإصلاح ولا المصلحة المشتركة، بل القبض على السلطة، لإخضاع الشعوب لذاكرتهم الموتورة وهوياتهم المفخخة ومشاريعهم المستحيلة.
لا شك أن ما يحدث يفاجئ ويصدم. وإذا كانت الثورات العربية التي صنعتها الأجيال الجديدة، لتفتح نافذة الأمل لولادة عالم عربي جديد، قد فاجأت العرب والعالم، ولم تكن واردة في الحسبان، فإنها أيضاً تفاجئ وتصدم ولو بصورة معكوسة من حيث مآلاتها الكارثية.
فمن كان يتصور أن يكون المآل هذه الحروب الأهلية الطاحنة والمدمرة؟ ومن كان يتخيل أن تنتهي الثورة اليمنية، بحشودها الشعبية، إلى سقوط صنعاء بيد جماعة الحوثيين المرتبطين بالمشروع الإيراني الاستراتيجي للهيمنة على المنطقة؟
هل يعني ذلك أن العرب محكومٌ عليهم بالفشل والإخفاق، لكي يبقوا في مؤخرة الركب، بعد أن كانوا يعتبرون أنفسهم خير أمة أخرجت للناس؟ ليس هذا وحسب، بل أصبحت الأمة بديارها وبلدانها ملعباً للصراعات أو مسرحاً لتصفية الحسابات، أو ورقة للمفاوضات والتسويات، من جانب كبار اللاعبين الإقليميين والدوليين: أميركا وروسيا، إيران وتركيا، لا شيء يحدث إلاّ وله منطقه وعقلانيته عند من يبحث عن عوامله وأسبابه.
وما نحصده هو ثمرة لعقلياتنا وأفكارنا وثقافتنا، كما هو حصيلة لطرق سوسنا للهويات وإدارتنا للأشياء. هناك النرجسية الثقافية كما يجسدها الإسلاميون الذين لا يعترفون بتطور الحياة، بإصرارهم على المماهاة مع السلف واحتذاء نماذجهم في الفكر والمسلك.
والمآل هو الفشل وممارسة الزيف الوجودي، بجمعهم بين مساوئ التراث ومساوئ الحداثة، وهناك الحداثيون الذين يشكلون الوجه الآخر للعملة، من حيث تأليههم العقل وتقديس الشعارات الحديثة، بدلاً من عبادة السلف وتقديس كتبهم. مما أدى إلى تلغيم مشاريع التحديث وفشلها، بإعادة إنتاج التخلّف والاستبداد والفقر.
لا أنسى الوجه الثالث للآفة، كما تجسم في المشروع القومي الذي انبنى على تهويم إيديولوجي، قوامه أن العرب هم أمة واحدة من المحيط إلى الخليج، وأن الاستعمار هو الذي عمل على تفكيكها وتجزئتها، ولذا فقد احتكر أصحاب المشروع المذكور الشأن القومي، وخوّنوا كل من خالفهم الرأي عندما قبضوا على السلطة، واتخذوا شعارات الوحدة والتحرير غطاءً لاستبدادهم بالأمر، وإرجائهم لمطالب الإصلاح والتحديث السياسي والمجتمعي والاقتصادي.
وهكذا، فقد اجتمعت النرجسية الدينية والنخبوية الثقافية والاستبداد السياسي، لكي تعمل على تزييف الوقائع وطمس الحقائق وقمع أي محاولة للتغيير في عالم يتغير بصورة متسارعة. وكانت الثمرة السيئة لذلك تفويت الفرص وإرجاء الحلول للمشكلات واستفحال الأزمات، لكي تفعل فعلها بصورة مضاعفة عجزاً وتخلّفاً، فساداً واستبداداً.
لما اندلعت الثورات وسقطت رؤوس الأنظمة، فقد خيل للكثيرين، من الذين لم يصدقوا أن تتهاوى الديكتاتورية بهذه السهولة أو السرعة، أننا أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من الخلاص والتحرر من النير الجاثم والكابوس المرعب، ولكن ذلك كان من قبيل سوء التقدير.