ما إن دقت ساعة زوال الأنظمة الاستبدادية والعلمانية والمتسلطة حتى أُميط اللثام عن العديد من الأحزاب والحركات التكفيرية المتشددة، وتنوعت أنواع ودوافع وحوافز التكفير من شخصية فردية إلى سياسية حزبية، إلى دينية ومذهبية، إلى عرقية وعصبية قبلية.

كل من هذه تنظر بعين العداء والتكفير لكل ما هو غير تقريباً. تود لو تستأثر بالسلطة لكي تقيم الحكم والعدل وتطبق الأحكام على مزاجها معتقدةً أنها تُرضي الواقع والغيب.

تدافعت تلك الحركات والأحزاب نحو مكان الصدارة. ولولا دفْع الأحزاب تلك بعضها ببعض لأهلكت ما تمكنت من إهلاكه . بسبب كثرتها عددياً لم تتمكن الأحزاب السياسية العقائدية المتنوعة من الاستئثار والتفرد بالسلطة كما يحلو لها، وبالسهولة المتوقعة.

عوّضت عن العجز بأن لجأت إلى أرخص الوسائل للتأثير بالجماهير من العوام، والتي يمكن تضليلها بسهولة. امتلكت الأحزاب المأزومة محلياً وإقليمياً ودولياً وسائل إعلاميةً ورقيةً وإلكترونيةً وفضائيةً صوريةً، وغير ذلك.

تبنّت أساليب بث الإشاعات والكذب والتضليل ، وبمختلف الأنماط والفنون. الضحايا أغلبهم من العوام الذين لا قوةً، ولا خلفيةً فكريةً متماسكةً. رصدت تلك الحركات جهوداً غير عادية ماليةً وتقنيةً وفكريةً إعلاميةً ودعايةً سياسيةً.

تستمد تلك الحركات الفاشية والشوفينية مقومات بقائها من عدة حوافز وعوامل؛ أهمها محاولة استقطاب العوام والدعم المالي والسياسي، المحلي والخارجي. لكنها حقيقةً تفتقر بشدة إلى العناصر الإيجابية لاستمرار وجودها، وطنياً وإنسانياً وفكرياً وعقائدياً.

بسبب الأنشطة التكفيرية المكثفة فكل الدول التي غابت عنها الأنظمة الدكتاتورية دخلت في أنفاق مظلمة؛ يكاد لا يُرى في نهاية كل منها بصيص أمل. من الواضح أن التربية والتنشئة التعليمية الوطنية من الضحالة بمكان بحيث لا مكان لتطبيق الديمقراطية السلمية السليمة

. لأجل ذلك ظهرت حركات ظلامية تكفيرية مسيّسة تعتمد القضاء على الخصم بعد إصدار «فتوى سياسية اجتماعية عقائدية» عليه بحرمانه من حقوقه الأساسية في الدنيا وفي الآخرة.

فيما بين تلك الفئات هنالك زخم هائل من التراشق الإعلامي؛ يستمر على مدار الساعة طوال السنة. هنالك تصعيد مستمر يصل إلى تكفير كل فرد من الأطراف الأخرى؛ مما يضع مصير الأجيال أمام واقع مصيري لا تُحمد عقباه

تتجسد آثار التراشق الإعلامي بين الفئات التكفيرية في الحياة الاجتماعية والسياسية والنفسية والفكرية والاقتصادية؛ كلها بالنتائج السلبية الوخيمة. المواطن العربي يسأل من يصادفه في طريقه عن هوية الآخر الطائفية والمذهبية والعرقية والدينية والسياسية. إذا ما انزاح الطرف الآخر عن المعايير التي ترتّبُها وسائل الإعلام التكفيرية، ولو قيد أنملة، فإن ذلك سيسبب شقاقاً ورفضاً بين الطرفين.

غالباً ما يؤدي الحال إلى حدوث حالة من الانجراف للاتجاه المضاد والاستقطاب المتطرف لدى الطرفين؛ يستمر طويلاً وربما مصيرياً. كل طرف يلقي بنفسه في أحضان فئة تكفيرية محمومة مأزومة حاقدة لها رصيد إعلامي، خاصةً فضائي، يميل على الدوام إلى الاستمرار في التصعيد ضد الآخرين. العالم الخارجي يقف متفرجاً وهو راض كثيراً عن التأزيم الناجم عن سيطرة التكفيريين على موجات التواصل بين الكتل البشرية.

يُمنحون تراخيص للبث على مختلف الأقمار الصناعية الإقليمية والدولية. يسمون ذلك احتراماً لحقوق الإنسان وحرية التعبير، ويستمرون في جني أرباح من الرسوم المدفوعة سنوياً على البث الفضائي «المحموم».

وتبقى الكتل الجماهيرية الكبيرة تصطلي بنار البث الإعلامي الذي يقضّ مضجع المشاهدين بالتنكر لعقائدهم ومذاهبهم وأيديولوجياتهم المختلفة. وإلى أن يصلح الحال وتهدأ الأمور وتستقر سلمياً على المشاهدين أن يظلوا في حالة كر وفر، ومد وجزر، وتشنج واسترخاء، وتفاؤل وتشاؤم.

لن يحدث ذلك الاستقرار قبل أن تضع الحروب الأهلية والدينية والمذهبية أوزارها. في ذلك يناشد المواطن العربي الاعلام بأن يتقي الله تعالى فيما تبثه من مواد تحريضية وأكاذيب ؛ تجعل من حياتهم أمراً لا يطاق.