الإنسان العربي المعاصر هو الآن إنسانٌ تائه، رغم ما حصل من تقدّم في العلوم والمعرفة. فلا هو يعرف إلى أين يسير مستقبله، ولا حتّى مصير وطنه وأرضه ومجتمعه. هو شعور بالتّيه يسود معظم شعوب المنطقة العربية، فالحاضر مذموم والغد مجهول. لا الوطن هو الوطن المنشود، ولا الغربة هي الوطن البديل!
كانت العصور القديمة تتميّز بوجود مجالس «الحكماء» الذين يشيرون على الحاكم بما هو الأفضل من الخيارات قبل اتّخاذ القرارات. الآن، أصبحت أجهزة المخابرات المعتمدة على «المعلومات» هي مصدر «إلهام» الحكّام في العالم عموماً. وما يصنع «رأي» الناس في هذا العصر هو «المعلومات» وليس «العلم» و«المعرفة»، وهذا ما أدركه الذين يصلون للحكم أو يسعون إليه، كما أدركته أيضاً القوى التي تريد الهيمنة على شعوبٍ أخرى أو التحكّم في مسار أحداثها.
إنّ بلدان المنطقة العربية تعاني الآن من حالٍ خطير من هبوط مستوى العلم والتعليم والمعرفة. فالأمر لم يعد يرتبط فقط بمستوى الأمية الذي يزداد ارتفاعاً في عدّة بلدان، بل أيضاً بانحدار مستوى التعليم نفسه، وبهيمنة فتاوى ومفاهيم دينية تُعبّر عن «جاهلية» جديدة تُخالف حقيقة الدين ومقاصده. فمشكلة البلاد العربية، والعالم الإسلامي عموماً، ليست في مواجهة الجهل بمعناه العلمي فقط، بل أيضاً في حال «الجاهلية» التي عادت للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة..
وعلى مدى قرون من الزمن توقّف فيها الاجتهاد وسادت فيها قيود فكرية وتقاليد وعادات ومفاهيم هي من رواسب عصر «الجاهلية». هنا تصبح مسؤولية الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لا في تحسين مستويات التعليم ومراكز البحث العلمي فقط، بل بالمساهمة أيضاً في وضع لبنات لنهضة عربية جديدة، وقد يرى البعض أنّ حال الانحطاط في الأمّة هو من مسؤولية الخارج أو الأجنبي فقط، وقد يرى البعض الآخر أنّ تردّي أوضاع الأمّة هو نتاج محلي فقط.
صحيح هناك «تنوّع ثقافي» في العالم الإسلامي لكن ليس في المجتمع العربي، فهناك «تنوّع ثقافي» دائماً تحت مظلّة أيّة حضارة. إذ إنّ الحضارات تقوم على مجموعة من الثقافات المتنوعة، ويكون فيها ثقافة رائدة كما هو حال الثقافة الأميركية الآن في الحضارة الغربية، وكما كان حال الثقافة العربية في مرحلة نشر الحضارة الإسلامية.
فالأمّة الأميركية هي الآن مجتمع مركّب من الأعراق والأديان والأصول الإثنية، لكن في ظلّ ثقافة أميركية واحدة جامعة تُعبّر عن هويّة أميركية يعتزّ بها الأميركيون بمختلف أصولهم. بينما البلاد العربية، والتي تملك أصلاً كل مقوّمات الأمّة الواحدة: (اللغة المشتركة – التاريخ المشترك – الأرض المشتركة - المصالح المشتركة والمصير الواحد)، فإنّها تعاني من حال الانقسامات والصراعات الداخلية التي تُهدّد وحدتها الوطنية، فكيف بهويّتها العربية المشتركة التي يخجل بعض العرب حتّى من الاعتراف بها! وهذا ما يُضعف الآن قضية الانتماء إلى ثقافة عربية واحدة مشتركة..
وهذا ما يتطلّب أيضاً الانتباه إلى التلازم الذي يحصل دائماً بين ضعف «الهويّة العربية» وبين حال الانحطاط في أوضاع البلاد العربية. عاملٌ آخر يزيد الآن من مآساة «الجهل والجاهلية» في المنطقة العربية، وهو «نزيف الأدمغة العربية»، حيث ترتفع سنوياً نسبة هجرة الشباب العرب إلى الخارج واستقرار عددٍ كبير من الكفاءات العلمية العربية في دول الغرب.
السفر والمهجر ليسا مانعاً من التواصل مع المنطقة العربية والأوطان الأصلية أو مع قضايا الأمّة عموماً، خاصّةً في عصر «العولمة» و«المعلوماتية» الذي نعيشه، بل على العكس، فإنّ الحياة في الخارج قد تتيح فرصاً أكبر للتأثير والفعالية في «المكانين» معاً. هناك «عقول عربية» مقيمة في المنطقة العربية ولكنّها تخدم غير العرب، وهناك «عقول عربية» مقيمة في الخارج لكنّها في ذروة عطائها للحقوق والقضايا العربية.
فالمشكلة هنا هي في تعريف النفس وتحديد الهُويّة والدور، وليست في عدم توفّر المستوى العلمي الجيد بل بغياب المعرفة التي تدفع أصحابها إلى الالتزام بخدمة قضايا أوطانهم وأمّتهم. فكم من أمّيٍّ (غير متعلم) يُحقق لنفسه المعرفة ويخدم التزاماتها، وكم من متعلّمٍ حائزٍ على شهادات عالية لكنه أسير عمله الفئوي فقط، ولا يُدرك ما يحدث حوله ولا يُساهم في بناء وتطوير معرفته وآفاقه الفكرية، ويكتفي بأن يتّبع «صاحب طريقة» أو حامل «كتاب تفسير» فيه الكثير مما لا يقبله العقل ولا الدين نفسه. فهذا هو الفرق بين «العلم» و«المعرفة»، كما هو الفرق بين «الجهل» و«الجاهلية»!