لقد ودعنا العام المنصرم بمجزرة مروعة راح ضحيتها أكثر من 140 تلميذاً في مدرسة بكابول عاصمة باكستان. وها نحن نستقبل العام الجديد بمجزرة فظيعة كانت حصيلتها تصفية 12 شخصاً من أسرة صحيفة (شارلي إيبدو) في قلب باريس عاصمة فرنسا، وهكذا، نحن نعيش اليوم، عرباً وبشراً، على وقع الإرهاب الذي يفاجئنا كل مرّة، من حيث لا نحتسب.
وإذا كان العالم العربي يغرق في الفوضى والعنف والعجز، فالعالم ليس على ما يرام.
نحن إزاء نظام عالمي فشل وفقد مصداقيته في إدارة الشأن البشري والكوكبي، يشهد على ذلك كل هذا التخبط والتورط والتواطؤ، وها هم يفشلون في دحر الإرهاب بعد أكثر من عشر سنوات على إعلان الحرب عليه. لأن الإرهاب ليس مجرد خلل أمني طارئ، وإنما له جذوره الثقافية، كما له روافده وعوامله المساعدة، السياسية والمجتمعية أو الإعلامية والتقنية.
هناك الجانب السياسي، كما تمثل في أنظمة الاستبداد، حيث الحاكم، في العالم العربي، يتعامل مع بلده كمالك الملك الذي يتصرف في ملكه كما يشاء. في مثل هذه الآفاق العربية المسدودة، سياسياً، حيث لا مكان لأي تغيير بالوسائل السلمية والديمقراطية، يصبح الحل بالوسائل العنيفة والإرهابية أمراً وارداً.
هناك الوجه الآخر لملاّك الأوطان، كما يتعامل مع هويتهم الدينية الأصوليون والجهاديون الذين يحتكرون الشأن الإسلامي ويتهمون غالبية المسلمين بالارتداد عن تعاليم الدين وشرائعه، ومثل هذا المشروع الأصولي بشقيه الدعوي والجهادي، هو ما حاولت ترجمته منظمة «القاعدة» وما تفرّع منها من منظمات وجبهات، وصولاً الى الدواعش الذين يصدمون اليوم، بهمجيتهم، المسلمين قبل سواهم.
فالكل ينحدرون من نفس السلالة التي هي منبع للعنف الذي لا ينضب.
لا شك أن للعنف أسبابه في الخارج، كما تمثل ذلك في الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي تحالفت مع المنظمات الإرهابية والجماعات التكفيرية، واستثمرتها في البداية، لمحاربة الدول والأنظمة في المعسكر الأيديولوجي والسياسي المضاد، كما تمثل يومئذ في الاتحاد السوفييتي وحليفه الأفغاني.
وكانت النتيجة أن الإسلاميين انقلبوا، في ما بعد، على رعاتهم وحلفائهم، واستهدفوهم بإرهابهم، فاضطر هؤلاء لشن الحرب عليهم، ولكن بعد فوات الأوان.
وعلى نفسها جنت براقش العصر، أميركا، وعلى العالم بأسره. هناك العامل الاقتصادي كما يتمثل في الفقر والبؤس والبطالة، ولا سيما أننا نعيش في نظام اقتصادي يزداد فيه الأغنياء ثراء وفحشاً أو فساداً.
قد يدفع هذا العامل الكثيرين الى الانخراط في التنظيمات الإرهابية، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، سعياً لتغيير نظام العالم وإقامة نظام تراعى فيه مبادئ العدالة والمساواة. العامل السلطوي.
فالذين هم محل تهميش وإقصاء، يغريهم الانخراط في المنظمات الإرهابية، إذ بذلك يصبحون أصحاب سلطة وقرار، أو ذوي مكانة وهيبة. بهذا المعنى يحاول الإرهابيون تحدي الأنظمة والقوى المهيمنة والثأر منها بتمردهم عليها والسعي الى زعزعة أركانها.
هنا يأتي الدور الفعال للإعلام المرئي في نشر الإرهاب. نحن اليوم في عصر الشاشات والشبكات التي لا تكتفي بنقل الحقائق، بل تسهم في صنعها، هذا ما أدركه الإرهابيون، الذين لا يتورعون عن انتهاك كل القيم والحرمات، فأحسنوا استخدام الشاشة لبثّ صور جزّ الرؤوس وقطع الأعناق، الأمر الذي يعطي مردوده مزيداً من القوة والسطوة، إيجاباً بجذب من تغريه مثل هذه اللعبة الجهنمية، أو سلباً بزرع الرعب في النفوس والعقول.
وهكذا فقد أتقن الإرهابيون لعبتهم الجهنمية باللعب على وتر الخيال الاقتصادي والسياسي للبائسين والمقهورين، وأنهي هذه المقالة بالكلام على التحولات الثقافية التي يعتبرها البعض من العوامل التي تدفع الكثيرين من الشبان الى الانخراط في صفوف المنظمات الإرهابية، ومنها طغيان النزعة الفردية الذي يؤدي، برأيهم الى التحلل من القيم الأخلاقية وانحلال الروابط الاجتماعية، ومن ثم الى ضياع الناشئة الذين يقعون فريسة لشعوذة نجوم الإرهاب ومجرميه.
لا شك أن تطوراً طرأ على العلاقة بين الفرد والمجتمع. لم يعد الفرد يتصرف بوصفه تابعاً أو خادماً، من حيث علاقته بالمؤسسة أو الجماعة أو الدولة، أو أي هوية مجتمعية. إن الفرد بات يفكر ويتصرف بوصفه يصنع هويته ويبني نفسه وعالمه.
ومن هذا شأنه لا ينخرط في منظمة إرهابية، لكي يصبح تابعاً لشيخه أو عبداً لأميره، ينفذ الأوامر بصور عمياء، سواء بقتل من يخالفه المعتقد، أو بقتل رفيقه في الجهاد لاختلافه معه في الرأي.
وإذا كان بعض الغربيين يجذبهم الجهاد الإرهابي والتكفيري، فليس لأنهم يحبون الحرية والتفرد، بل لأنهم أشخاص ناقمون أو مهمشون أو مهووسون وغير أسوياء. والمسؤولية تقع على مجتمعهم الذي لم يحسن خلق الظروف والفرص والوسائل التي تتيح لهم أن يحيوا حياة منتجة، ناجحة، سوية، متوازنة.
ولنحسن قراءة الوقائع والشواهد. فها هي الكنيسة، المؤسسة الروحية الأولى في أوروبا، باتت مريضة، خاوية، كما يعلن رأسها البابا فرانسوا. مما يعني أنّ العلّة تكمن في مجتمعاتنا ومؤسساتنا، فهي التي تحتاج إلى الإصلاح. ولذا من سخف الرأي القول بأن النزعة الفردية أسهمت في تغذية الإرهاب وانتشاره. والأسخف منه هو الرأي الذي يرد الإرهاب الى هيمنة ما بعد الحداثة بأفكارها وقيمها.