السؤال الذي يتردد على مسامعي دوماً، ويوجّهه إلي كثير ممن أقابلهم بل وأظن أنه يوجّه لكل مشتغل بالقانون من أعضاء السلطة القضائية والمحامين والمتخصصين ألا وهو: كيف استطعت أن تحفظ نصوص القوانين؟
وأبتسم دائماً ثم أجيب السائل بأن القانون ليس قصيدة شعرية تحفظ أبياتها، فأنا لا أحفظ القانون، لأن القانون ببساطة مجموعة من القواعد التي نفهمها ونطبقها على الواقعات التي تعرِض علينا، فمن يحفظ القاعدة حفظاً خالياً من الفهم لن يتمكن من فهم الواقع أو الواقعة.
وبالتالي لن يستطيع تطبيق القانون عليها، وهذا ما أوصى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى الأشعري في رسالته الشهيرة له لما ولاّه القضاء، فقال له: "الفهم إذا أدلي إليك" وأردف قائلاً ومؤكداً على أهمية الفهم، "الفهمَ الفهمَ لما يتلجلج في صدرك".
وإن من أهم ما يتميز به القانوني عن باقي أقرانه ممن تلقوا المعارف والعلوم الإنسانية الأخرى، قدرته وتمتعه بمهارة التحليل وإعمال المنطق، وهما من مستلزمات نجاحه وبراعته في أداء مهنته.
وعندما نتأمل كل تلك الأعداد الهائلة من الطلاب المنتسبين إلى كليات القانون في دولة الإمارات العربية المتحدة، يقفز إلى الذهن سؤال مهم، هل نحن بحاجة لكل هذه الأعداد الغفيرة ممن يدرسون القانون؟
وهل سوق العمل الإماراتي قادر على استيعاب كل هذه الجموع من دارسي القانون؟ والسؤال الأصعب هل يتحلى هؤلاء الخريجون بالكفاءة اللازمة للعمل القانوني؟ كل تلك الأسئلة تقع مسؤولية الإجابة عنها على عاتق وزارة التعليم العالي وكل قطاعات المجتمع التي ستتعامل مستقبلاً مع هؤلاء الخريجين من قطاعات العدالة من قضاء ونيابات عامة ومحاماة ودوائر وإدارات الشؤون القانونية في الدولة.
بل والمجتمع بأسره. إن كليات القانون كانت قديماً كليات الرؤساء والساسة والوزراء، بل كانت العائلات الكبيرة تحرص على إلحاق أبنائها بكليات القانون ثقة في تبوؤهم منصباً عاماً ذات يوم، أما اليوم فأصبحت هي كليات الـ 50% (أي الحد الأدنى للنجاح)، بل هي الكلية التي تقبل أقل نسب النجاح وأضعفها..
وهي موئل كل طالب أو طالبة فاته قطار الكليات العملية فيلتحق مرغماً بآخر عربة في قطار التعليم الجامعي مع الأسف عربة كليات القانون. إن عدد كليات القانون في الدولة يتجاوز الإحدى عشرة كلية...
كلها تضخ سنوياً أعداداً من الخريجين الذين لا يستوعبهم المجتمع. فالطلبة يقبلون على الالتحاق بتلك الكلية ببساطة ويسر وسهولة، فهي لا تتطلب نسبة مرتفعة من الدرجات في الثانوية العامة، على الرغم من أن معظمهم يلتحق بها على خلاف رغبته وميوله وتطلعاته..
ولكن ما اضطره إليها إلا المجموع الضعيف، وبمرور الوقت يتحول هؤلاء المرغمين إلى خريجين ونجد أنفسنا أمام سيل عرم من خريجي كليات القانون، والذين لا يدركون من قيمة الكلية ولا قيمة الدراسة بها سوى الشهادة التي حصلوا عليها، والدرجة العلمية التي لازمت أسمائهم.
منذ عام 2004، تصدر شبكة التعليم والوظائف (كيو إس) (QS) قائمتها العالمية للجامعات والتي تقيّم وتحدد أبرز المؤسسات التعليمية في العالم. وتجمع الشبكة بياناتها بناءً على عدد من المعطيات والمجالات المهمة، منها: السمعة الأكاديمية للمؤسسة أو الجامعة، وكذلك أعداد الطلبة في الكلية وآليات القبول..
وغير ذلك مما يتصل بالمستوى الأكاديمي. ودائماً ما أسأل نفسي ويتفق معي الكثير من المهتمين والمهمومين بالقانون، لماذا لا تعود كليات القانون لتلك المكانة المرموقة فتكون الدرة بين مثيلاتها من كليات القمة، كالطب والهندسة..
وهذا هو مكانها الطبيعي وهي خليقة به. نحن نستحق أن نرى جامعاتنا ضمن تصنيف أفضل عشر جامعات على المستوى العالمي، فلقد تبوأنا المركز الأول في العديد من المجالات وحققنا الريادة والإبداع والابتكار، وفي اعتقادي أن التعليم يمثل لنا التحدي الأكبر، فعن طريقه نستطيع أن نعالج الفجوة الشديدة التي يعاني منها سوق العمل في الدولة من نقص الكفاءات البشرية المواطنة في المجالات القانونية والعدلية..
وإن الحاجة لملء الفراغ في تخصصات المحامين وأعضاء السلطة القضائية من قضاة وأعضاء نيابة عامة ومعاونيهم والمستشارين القانونيين وغيرهم من المهن القانونية. والسبيل الأمثل لتحقيق هذا الهدف يكمن عند تحقق الرؤى الاستراتيجية للدولة في التوطين وبخاصة في توطين القطاع القانوني..
وعلينا أن نشعر المواطن بأهمية المشاركة لتحقيق هذا الهدف. كما أننا بحاجة لاستقطاب الكفاءات المتميزة وتوجيههم للتخصص في المجالات القانونية، فهم من سيتبوؤون هذه المقاعد كلها ويمارسون مهامهم في المحافظة على الحقوق وهم من سيقدمون الدعم القانوني اللازم عند صياغات العقود وسن التشريعات، فالقانون شريك أساسي في كل مناحي الحياة،
ومن جهة أخرى فإن قدرتنا على إيجاد جامعة ذات مواصفات عالمية هنا على أرضنا الطيبة ستتمكن من خلال البرامج المتطورة واستقطاب الطالب المواطن النابه والمحب للقانون مع الراغبين من النخب في الدول الأخرى الحريصين على تلقي أرفع المستويات القانونية وستكون هذه التوليفة هي التحدي الثاني لنا عبر الاستفادة المثلى مما تحظى به دولة الإمارات العربية المتحدة وقيادتها من مصداقية وعالمية.