مُقِلٌّ في أحاديثه وخطبه، لكنه إذا تكلم أسر مستمعيه بحديثه الذي يفيض عذوبة وينساب بتلقائية. إنه الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي منذ أن أعلنت اللجنة العليا المنظمة للقمة الحكومية الثالثة أن الكلمة الرئيسية ستكون لسموه، والجميع يترقب كلمته..
وعندما تكلم جاءت كلمة سموه درسا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ والحكمة والبلاغة والأدب. بدأها برسالة وأنهاها برسالة، وبين الرسالتين احتشدت مضامين كثيرة، لا يقولها إلا القادة العظام أمثال سموه، ولا تفهمها إلا الشعوب المحبة لأوطانها وقادتها مثل الشعب الإماراتي.
«سمو الشيخ محمد بن راشد.. أخي وصديقي ومعلمي». بهذه العبارة بدأ سموه كلمته، فكانت الرسالة الأولى التي تلقاها الجميع بكل الفهم الذي لا يشوبه لبس ولا شك ولا غموض، فقادة الإمارات هكذا دائما؛ يد واحدة وقلب واحد وإرادة واحدة.
وعندما أرسل سموه رسالته الأولى هذه، تبادرت إلى الأذهان صور كثيرة، تصدرتها الصورة القديمة التي جمعت بين المغفور لهما بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما.
تلك الصورة التي يظهران فيها ضاحكين بشوشين، يبدو البشر على وجهيهما، وينبع الصفاء من قلبيهما. فأي صورة أبلغ من تلك الصورة، وأي رسام ماهر كنت يا صاحب السمو وأنت تذكرنا بها، وتلونها وتعرضها من جديد، كي يراها الجميع، ليعلموا أن التاريخ حلقات يكمل بعضها الآخر، ويضيف إليه، ويؤكد استمراره وتواصله!
هكذا مهّد سموه الأرضية لما سيقوله، وهيأ الحضور لاستيعاب القادم، والقادم وفق رؤية سموه ليس بعد عام أو عامين أو عشرة أعوام، وإنما بعد 50 عاما من الآن، حيث سيبلغ عدد سكان شبه الجزيرة العربية ما يقارب ثلاثة أضعاف سكانها اليوم، وحيث من المؤكد أنه لن يكون هناك نهر، ومن المؤكد أيضا أنه لن يكون هناك بترول ولا غاز..
وهو ما تفكر به حكومة دولة الإمارات اليوم، كي لا تعاني الأجيال القادمة مما عانى منه الآباء والأجداد قبل 50 عاما من الآن. الاستثمار في التعليم هو رهاننا الحقيقي في هذه الفترة من الزمن. هكذا قال سموه، لأنه عندما يأتي وقت بعد 50 عاما، وتحمّل آخر سفينة آخر برميل نفط، سيكون السؤال بعد تحميل هذا البرميل: هل سنحزن؟ إذا كان الاستثمار اليوم صحيحا، فإن سموه يراهن على أننا سنحتفل في تلك اللحظة.. لن نحزن.
رؤية المؤسس، رحمه الله، أن الوحدة هي مصدر قوة الوطن، جمعت القبائل ووحدت الإمارات. تماسك مجتمعنا هو ثروتنا الحقيقية، وهو وسيلتنا في الاستمرارية لازدهار الدولة ومواجهة التحديات العالمية. اقتصاد قوي ومزدهر، واهتمام دائم بالموارد البشرية وتنميتها. ومن هذه الأولويات التعليم والصحة والابتكار والتنوع الاقتصادي والأمن، وكل ما يساهم في خلق دولة ذات إنجازات وقدرات عالمية.
النظرة البعيدة كانت من سمات القائد المؤسس، طيب الله ثراه، لذا كان إنشاء جهاز أبوظبي للاستثمار في منتصف السبعينيات نظرة بعيدة جدا، فالجهاز يعتبر اليوم ثاني أكبر جهاز استثمار في العالم.
هذه النظرة المستقبلية البعيدة مستمرة، فهناك بنية تحتية متطورة في عهد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، حفظه الله. وقد بادرت قيادة الدولة إلى بناء طاقة نووية نظيفة، حيث سيتم افتتاح المحطة الأولى عام 2017، وسيكون ما يقارب 25% من احتياجات الدولة من الطاقة النووية النظيفة.
تنوع وقوة اقتصادنا يمكناننا من مواجهة التحديات في هذا العالم ومن حولنا، خاصة عند هبوط أسعار النفط. اليوم هناك أزمة وتخوف، لكننا يجب ألا ننسى أن سعر النفط عام 2008 كان أعلى، ووصل إلى أقل مما وصل إليه الآن، و«السفينة ماشية»، هكذا قال سموه.
منجزات الوطن والمواطن تحتاج إلى من يحميها، خاصة في منطقة تواجه منذ عقود وإلى الآن تحديات إقليمية. الشرق الأوسط منطقة فيها الكثير من الأحداث، ومنذ نشأة دولة الإمارات وإلى يومنا هذا، والدولة تحاول دائما إرسال رسالة إيجابية إلى العالم.
بناتنا وأبناؤنا هم فخر لنا. هذه حقيقة يؤكدها سموه، فالاعتزاز الوطني والفخر بوحدتنا الوطنية مهم جدا. وقد أثبت أبناء الإمارات ولاءهم لهذا الوطن وقيادته، كما أثبتوا وطنيتهم في أكثر من مناسبة، ليؤكدوا نظرية القائد المؤسس، طيب الله ثراه، أن هناك فرقا بين الدلع والواجب، عندما قال له أحد الصحفيين ذات يوم: «يا شيخ زايد أنت تدلع شعبك بالعمل الذي تقوم به».
مجتمعنا متماسك بروح الاتحاد، والبيت إن شاء الله متوحد بإذن الله. هذه القيم، وهذه العادات، وهذه التقاليد، وهذه الأخلاق، وهذا التفاني موجود اليوم في كل مواطن، في كل بيت، في كل عائلة. وما دامت هذه الروح موجودة، ما دام هذا التفاني موجودا، فمستقبلنا إن شاء الله في هذا البلد، بتوفيق من الله، بخير.
كانت هذه هي الرسالة التي ختم بها الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان كلمته، وهي رسالة لا تقل قوة عن التي بدأ بها.
لهذا كانت هذه القمة استثنائية، كما وصفها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كلمته الختامية، فقال: «تكلم فيها أخي وصديقي وصاحب طريقي محمد بن زايد آل نهيان... تكلم بالروح الإيجابية، فكان يقودنا إلى المستقبل بالطاقة الإيجابية». فهنيئا لنا بهذا الوطن، وهنيئا لنا بهذه القيادة، ونحن معها منطلقين نحو المستقبل، متسلحين بالروح الإيجابية التي يتكلم بها قادتنا.