يرى صاحب كل فكرٍ الصواب في فكره، والخطأ في فكر غيره، لكنْ قليلٌ من المفكّرين من يرى احتمال الخطأ في فكره أو احتمال الإصابة في فكر الآخر. وهذا منطلق مهم لإمكان نجاح أي حوار بين أفكار وآراء مختلفة، ومع انعدام هذا المنطلق المشترك الذي يحتمل الصواب والخطأ في كل رأي، سيسير أي حوار بين رأيين أو موقفين مختلفين في طريق مسدود.

عوامل كثيرة تدفع بعض الناس إلى الانحباس في خنادق فكرية فيعتقدون أنّهم بذلك يصونون أنفسهم من مخاطر جحافل «الفكر الآخر»، بينما هم في الواقع يسجنون ما لديهم من فكر ورؤى، فلا «الآخر» يصل إليها أو يتفاعل معها، ولا هم يتطوّرون أو يكسبون فكراً جديداً، بل يبقون على ما هم عليه جامدين متحجرين.

هكذا هي أحياناً مشكلة بعض الحركات السياسية، الإسلامية أو القومية، أنّها لم تحسن إدراك المفهوم الصحيح للمفاهيم المتداولة أو للانتماءات الدينية والقومية، وقام هذا البعض بخلط المفهوم الفكري والثقافي مع المضامين والمواقف السياسية، فأصبحت أخطار الممارسة مقرونة بمفهوم الانتماء أو الهُوية نفسها.

من أجل ذلك خرجت مدارس فكرية وسياسية تدين هذا الاتجاه الديني أو ذاك القومي بحالٍ من التعميم لكل ما هو «إسلامي» أو «قومي»، بينما لا تجد الحالة الفكرية السليمة تناقضاً ما بين الهويّة الثقافية القومية وبين المضمون الحضاري الإسلامي لها.

هي أيضاً مشكلة مصطلح «العلمانية» الذي يخضع للكثير من الذمِّ والمدح دون اتفاقٍ أولاً على مفهوم المصطلح نفسه، وعلى التمييز المطلوب بين التجارب العلمانية في العالم. فالمسلمون في أميركا ــ كما غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ــ يمارسون كامل حقوقهم الدينية في ظلِّ مجتمع قائم على النظام السياسي العلماني. لكن علمانية الدستور الأميركي اختلفت مثلاً عن علمانية التجربة الفرنسية من حيث النشأة..

كما من حيث التطبيق أيضاً. ففرنسا اختارت العلمانية تاريخياً من أجل وضع حدٍّ لتدخّل الكنيسة في شؤون الدولة، بينما الآباء الدستوريون في أميركا، وفي مقدّمتهم توماس جيفرسون، اختاروا النظام العلماني لضمان حرّية تعدّد الطوائف الدينية ولعدم طغيان طائفة على أخرى. فأميركا لم تشهد تاريخياً الصراع الذي جرى في أوروبا بين رجال الكنيسة وبين رجال وأمراء الدول..

ولذلك اختلف المفهوم واختلف التطبيق رغم وحدة التسميات. وهذا ينطبق أيضاً على الفارق بين التجارب العلمانية الشيوعية وغيرها من الأنظمة العلمانية الديمقراطية، حيث سعت العلمانية الشيوعية لفصل الدين عن المجتمع كلّه، لا لفصل الدين عن الدولة فقط كمفهوم عام لمصطلح العلمانية. إنَّ «العلمانية الأميركية» لا تفصل الدين عن الدولة كلياً كما هو الحال مثلاً في فرنسا وتجارب أوروبية أخرى...

ولا يجد أي رئيس أميركي حرجاً في الذهاب أسبوعياً للكنيسة من أجل الصلاة، والحرص أحياناً على التغطية الإعلامية لهذا الأمر، كما هو الحال أيضاً في جلسات الكونغرس التي يتم افتتاحها بقراءات من كتب مقدّسة، بينما لا يُتصوّر قبول ذلك في تجارب علمانية أوروبية. فالعلمانية الأميركية تشجّع على الإيمان الديني ولا تحاربه..

وتقوم المؤسسات الحكومية بدعم المراكز والمؤسسات الدينية (وبعضها إسلامي) وتتمّ الصلاة في مؤسسات حكومية وتشريعية بشكلٍ مشابه تماماً لما يحصل في كثير من البلدان العربية والإسلامية. وحقوق الناس في ممارسة شعائرهم الدينية (بما في ذلك مسائل الشكل واللباس) مصونة بحكم القانون.

وهذا أمر لا توفّره مثلاً التجربة العلمانية الفرنسية أو حتى التركية إلى وقت قريب. إذاً، رفض العلمانية بالمطلق، أو الدفاع عنها بالمطلق، هو إجحاف بحقِّ المفهوم والتجارب التنفيذية له. فالعلمانية، في التجربة الأميركية، هي لضمان حقوق كل الطوائف والأديان ولمنع هيمنة إحداها على الأخرى، بينما يتمّ استخدام العلمانية في تجارب عالمية أخرى للحدِّ من دور الدين في المجتمع.

ومن غرابة الأمور، أنّ التشويه حدث ولايزال يحدث في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس في تغيير إيجابي بكثير من أرجاء الأمَّة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية في الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم بها.

فمصطلح «الشرق الأوسط» أصبح أكثر تداولاً الآن من تعبير «الأمَّة العربية». ومصطلح «المصالح الطائفية والمذهبية» أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن «المصلحة الوطنية».

والاحتلال الأجنبي تحوّل إلى «تحرير من نظام ديكتاتوري»! و«الخصخصة» أصبحت بديلاً لواجبات الدولة في التخطيط الاقتصادي الشامل وفي ضمان «العدل الاجتماعي»، أمّا «الديمقراطية» فجرى اختصارها في آليات انتخابية ودمغ الأصابع بالحبر!

نجد المنطقة العربية تعيش الآن مخاطر التهديد للوحدة الوطنية كمحصّلة لمفاهيم أو ممارسات خاطئة لكلٍّ من الوطنية والعروبة والدين. وقد عانى العديد من الأوطان العربية، وما يزال، من أزمات تمييز بين المواطنين، أو نتيجة ضعف بناء الدولة الوطنية.