بين تفجير حركة طالبان لتماثيل بوذا في وادي باميان عام 2001، وتدمير تنظيم «داعش» لمتحف الموصل قبل أسابيع قليلة، يكمن فهم مشوه للإسلام، لكنه، للأسف الشديد، ثمرة للأساليب التي يتم فيها تلقين الإسلام لأجيال من العرب والمسلمين. أساليب لا تزال تخلط بين التاريخ والدين نفسه، فلا يصبح هناك فرق بين الحادثة التاريخية، وبين تعاليم الدين، فيتم التعامل مع الأحداث التاريخية وكأنها من صميم التعاليم.

في ما خص التماثيل (وتالياً كل التاريخ السابق للإسلام)، ليس هناك من أمثولة سوى ما قام به نبينا محمد (ص) والمسلمون يوم فتح مكة، من تحطيم الأصنام التي كانت داخل الكعبة وحولها. لكن فتح مكة كان حدثاً تاريخياً في المقام الأول، وكان يوم انتصار الدين الجديد، أي الإسلام (وقتذاك)، على عبادة الأصنام، فكان تحطيم أصنام الكعبة أمراً طبيعياً.

وبعد وفاة النبي الكريم، فتح المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، العراق وفارس والشام ومصر، وتوالت الفتوحات شرقا وغرباً، لكن التاريخ لم يسجل أن المسلمين قد قاموا بهدم تماثيل أو معابد أو كنائس في كل البلدان التي فتحوها.

فقد بقيت آثار بابل وآثار فارس وأهرامات مصر ومعابد الفراعنة والكنائس والمعابد اليهودية في كل الأقطار التي فتحها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين وما بعدهم، فهل كان أولئك المسلمون الأوائل أقل إيماناً من قادة طالبان أو قادة «داعش» مثلاً؟ لماذا لا يتذكر قادة طالبان وقادة «داعش»، وصايا الرسول والخلفاء للجيوش الإسلامية، التي تجمع في صيغة متكررة: «لا تقتلوا شيخاً ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيراً ولا طفلاً ولا امرأة..

ولا تقطعوا زرعاً ولا تهدموا داراً ولا تهلكوا الحرث والنسل»، بل وحتى الرفق بالحيوانات «ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة»، واحترام أهل الديانات الأخرى «وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع (رهبان)، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم». لماذا ينسى قادة طالبان ومشايخ «داعش» هذا كله، لا يتذكرون سوى هدم أصنام الكعبة يوم فتح مكة؟

تشير هذه المفارقة إلى خلل جسيم في تفكير قادة طالبان و«داعش» وفهمهم للإسلام، مستمد من منطق تبسيطي يصل إلى حد السذاجة، راج منذ عقود، منذ أن تباهى البعض بما سمي بـ «الصحوة الإسلامية» في أواخر سبعينيات القرن الماضي.

هذا المنطق التبسيطي، هو الثمرة الطبيعية لخلل أكبر، تمثله أساليب تلقين الدين في مجتمعاتنا من جهة، ومنطق وسرديات الأحزاب والحركات الدينية، كالإخوان والسلفيين، من جهة أخرى. فوفق المناهج السائدة في بلداننا العربية، يشرح المعلمون للتلاميذ، سرديات تقدم تاريخ الإسلام وأخرى تشرح تعاليمه.

لكن إذا أخذنا حدثاً تاريخياً، مثل فتح مكة على سبيل المثال، فإن الشروحات تقف عند رواية الحدث التاريخي فحسب، ولا تمضي أكثر لوضع الحدث في سياقه التاريخي، ليبقى معلقاً في أذهان الطلاب وكأنه من تعاليم الدين.

فنحن ما زلنا نقدم الدين متماهياً بالتاريخ، حتى ليصبح حدث تحطيم الأصنام في فتح مكة وكأنه من تعاليم الدين. هكذا، ولأنه مستقر في وعي أجيال بهذا الشكل المموه، ينسى منظرو هدم الآثار، وصايا النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، لقادة الجيوش بحسن المعاملة والترفق والرحمة، ولا يتذكرون سوى هدم أصنام الكعبة.

هذا الخلل والمنطق التبسيطي الذي يرتكز عليه، قاد إلى خلل آخر، هو العلاقة مع «الآخر»، شاملاً التاريخ نفسه، أي تاريخ ما قبل الإسلام.

فعندما ينسى هؤلاء (طالبان وداعش ومنظرو الصحوة ونجوم الفضائيات من المشايخ)، كيف أن المسيحيين واليهود وكل أصحاب الديانات الأخرى بقوا آمنين في ظل الفتوحات الإسلامية، وكل الدول والممالك التي نشأت تالياً (حتى أواخر القرن العشرين الماضي).

ولا يتذكرون سوى أن الآخرين مشركون، فإنهم بهذا لا يفعلون سوى تكرار أمثولة المحطات الأساسية (الأيقونية) في الدعوة المحمدية نفسها: الدعوة سراً، الهجرة إلى المدينة (دعاية «داعش» تركز على مفهوم الهجرة بكل حذافيره)، فتح مكة، وتالياً بناء دولة الخلافة.

 إن وصايا الرسول الكريم وخلفاؤه تلك لقادة الجيوش، تمثل أخلاق أمة منتصرة، أما هذه الفجاجة في اختزال الإسلام والإساءة له، فإن مردها هزيمة تربت عليها أجيال بالمعنى الأشمل للكلمة، الهزيمة لأجيال عاشت ولا تزال تحت وطأة الاستبداد من جهة، فتشوهت نفسياً وذهنياً، والهزيمة من أعدائهم (عربدة إسرائيل والعماء الأخلاقي للغرب في دعمها).