حياة المرء هي نظر وذوق، بقدر ما هي مفهوم وأسلوب. وهي تأمل وتخيّل، بقدر ما هي هوى وشغف أو وجد، ومتع الحياة أن يمارس الواحد حيويته الوجودية بكل أبعادها العشقية والفنية والمعرفية، والسلطوية. فللعشق سلطانه، وللفن سطوته، تماماً كما أن للمعرفة قوتها وأثرها الخارق في حياة البشر ومجريات العالم.
ولا أنسى البعد السياسي. لا بمعنى الاشتغال في السياسة، وإنما أن يحسن الواحد سوس نفسه وتدبير شؤونه. وثمّة أناس يتقنون التدبير في حياتهم ومهنهم، أكثر من رجال السياسة.
وإذا كان الهوى هو المحرّك الأصلي لمساعي المرء، في ما يعشق ويرغب، فإن التفنن هو منزع جذوره راسخة في أرض الكينونة، تماماً كما أن المعرفة هي منبع الإمكان ومصدر القوة.
بهذا المعنى نحن لا نحب إلا لأننا نعرف وندرك، ولم يكن لنا أن نعرف ونكتشف لولا شغف المعرفة وبهجتها، تماماً كما أننا نتفنّن لأننا نحب ونعشق، بقدر ما نحب كل ما نخاله جميلاً وجذاباً.
وهكذا، نحن إزاء أبعاد أو أقطاب تتداخل وتتفاعل في تكوين شخصية المرء، ولكل قطب عدته وقانونه، تماماً أن لكل بعد طرائقه وآلياته. فالمفهوم هو آلة النظر، والأسلوب هو لغة الذوق، والفن هو صناعة الجمال، تماماً كما أن التدبير هو غاية السياسة والإدارة.
والفن الجميل قد يتجلى في لوحة أو معزوفة أو منحوتة أو عمارة، كما يتجلّى في قصيدة أو رواية أو مسرحية... وسوى ذلك من الإبداعات الفنية التي تولد عند من يتلقاها أو يقرؤها ويتفاعل معها أروع الأحاسيس أو أنبل العواطف أو ألطف المعاني.
وأياً كان الحقل أو الشكل، فللفن بوصفه صناعة الجمال سماته:
الفن يتحدث بلغة الحس والشعور، كما أن الفلسفة تتحدث بلغة المفاهيم. وفي كلا المجالين لا إبداع من دون أفكار ورؤى خصبة أو مبتكرة. ولكن الفكرة تتخذ بنيتها المفهومية أو شكلها العقلاني في العمل الفلسفي، بينما هي تتجلى في العمل الفني في مركّب من الأحاسيس والانفعالات، عبر اللون أو النغم أو الكلمة.
الفن هو تجاوز لما هو مكرر ومبتذل أو عادي ومألوف، نحو ما هو فريد واستثنائي. ولذا لا يمكن تقليد العمل الفني أو نسخه إلا عبر تشويهه أو إفقاره. وإذا كان الرسام يفكر، بصوره، برسم ما لا عين رأت، كما هي مفاعيل رسوم فان غوغ للحقول، فإن الموسيقي يعزف، بألحانه، ما لا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما هو أثر من يستمع إلى معزوفات بيتهوفن. وهذا شأن الشاعر الذي يستخدم الكلام العمومي، عبر مجازاته واستعاراته، على نحو جديد يدهش ويخلب اللب، كما هي أشعار قيس أو البحتري.
الفن لا ينقل الواقع كما هو، بل يخلق أثراً يفرض واقعه ويملك حقيقته. إذ هو يعيد تشكيل الواقع، بخربطة العلاقة بين الأشياء. ومثال ذلك رسوم بيكاسو للوجوه، بصورة جديدة، صادمة، ولكنها مدهشة، بقدر ما تكشف عن الخفايا وعما لا يراه الواحد من نفسه أو واقعه.
من هنا نتجاوز مع العمل الفني الخارق مقولة الفن للفن والمقولة المضادة حول الفن الواقعي. فإذا كان الفن يخلق واقعه، فلا فن يعكس الواقع كما هو، ولا فن مقطوع الصلة بالواقع. لأن الفن كإبداع واختراع، يعيد بناء الواقع وتشكيله، بالكشف عما وراء الواقع أو قبله أو فوقه أو تحته.
وأياً كان الحقل أو الموضوع أو الأداة، لوحة أو معزوفة أو رواية، فالعمل الفني، الذي يصدر عن تجربة وجودية ويجسد خبرة جمالية، يسهم في تهذيب الذوق والإحساس، عبر إنتاج ونشر الأعمال التي تزيد الطبيعة جمالاً وتضفي على الحياة بهجة وإشراقاً. بذلك للفن دوره في مقاومته شراسة الإنسان ووحشيته كما تتجلى في تلويث الطبيعة وتخريب المجال الحيوي.
مقابل ذلك، ثمة دور آخر يلعبه الفن في مواجهة أصحاب المشاريع الأصولية، الذين يريدون الختم على الحسّ والسمع والبصر، سواء بتحريم الغناء والموسيقى، أو بالسعي إلى تدمير الصروح الحضارية والآثار المعمارية.
تلك هي مفاعيل الفن الجميل: فتح آفاق واجتراح إمكانات للتنوير والتحرير والتغيير لإعادة البناء والتشكيل بما يتيح للواحد أن يمارس علاقته بوجوده على سبيل الاستحقاق والاستمتاع والازدهار.