أصبح علم استشراف المستقبل من العلوم الاستراتيجية المهمة للمؤسسات والدول التي تضع خططها المستقبلية بناء على قراءة علمية تسعى بها لتطوير أحوال الناس، والاهتمام بهذا العلم يزداد يوماً بعد يوم.

ولقد لجأ الإنسان القديم إلى وسائل غيبية تعينه على سد حاجته الفطرية المتمثّلة في حب الاطلاع على المستقبل ومعرفته. ولقد كان رصد مواقع النجوم من أقدم الوسائل التي استخدمها المنجمون في سبيل معرفة المستقبل.

والقرآن الكريم مليء بالأمثلة التي تناقش استقراء المستقبل وتحثّ المسلمين على إدراك معاني المتغيرات العالمية والاستفادة منها، ولعل من أوضح الأمثلة فواتح سورة الروم «الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)» (الروم 1-5).

فهذه الآيات تنبأت بحادثتين مهمتين في مستقبل الحركة الإسلامية وهما انتصار الروم على الفرس، وانتصار المسلمين في موقعة بدر الكبرى.

كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية أخبر الناس والأمراء، لما تحرّك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يميناً، فقيل له: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليـقاً. فتلك ليست كرامة منّ الله بها على شيخ الإسلام وإنما اعتمد في توقعه على بعض أساليب الاستشراف.

وفي القمة الحكومية الثالثة التي استضافتها دبي في فبراير من العام الماضي قال معالي محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس تلك القمة “إن من يتأخر 10 سنوات عن التكنولوجيا سوف يتأخر 300 عام في مقاييس هذا الزمان، وإن الحاسوب الذي قيمته ألف دولار يعادل ذكاؤه بعد 10 أعوام ذكاء إنسان، وبعد 20 عاماً سيعادل ذكاء الحاسوب نفسه ذكاء كل سكان الكرة الأرضية” وهو يعني أن الحكومات التي لا تمسك بزمام المبادرات الحقيقية التي تُسرع من تقدمها ستعاني وستتأخر.

ولعل أصدق مثال على استشراف المستقبل والذي جاء من رحم تلك القمة، الحديث الذي أدلى به صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلّحة، فقد استشرف المستقبل عندما قال في كلمته الملهمة، بتصدير آخر برميل من النفط بعد 50 عاماً، وأن ذلك سيكون مصدر سعادة لنا.

إن الممكنات التي يستخدمها الإنسان لاستشراف المستقبل تختلف وتتفاوت باختلاف الزمان، ومن ممكنات هذا العصر البيانات الضخمة التي كشف عنها في القمة الحكومية سالفة الذكر الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية دون أن يكشف عن تفاصيلها، مطالباً الجميع بأن يبدأ البحث عنها.

فما هي تلك؟ تقدر أبحاث شركة إنتل أن حجم البيانات التي ولّدها البشر منذ بداية التاريخ وحتى عام 2003 ما قدره 5 إكسا بايت، لكن هذا الرقم تضاعف 500 مرة خلال عام 2012 ليصل إلى 2.7 زيتا بايت، ويتوقع أن يتضاعف هذا الرقم أيضاً بمقدار ثلاث مرات خلال عام 2015.

ومصدر تلك البيانات كل من المعلومات المنظمة والتي تشكل جزءاً ضئيلاً يصل إلى 10% مقارنة بالمعلومات غير المنظمة والتي تشكل النسبة المتبقية، والمقصود بالمعلومات غير المنظمة هي ما ينتجه البشر، كرسائل البريد الإلكتروني، ومقاطع الفيديو، والتغريدات، ومنشورات فيس بوك، ورسائل الدردشة على الواتساب، والنقرات على المواقع وغيرها.

وعرّف معهد ماكنزي العالمي سنة 2011 البيانات الضخمة أنها أي مجموعة من البيانات التي هي بحجم يفوق قدرة أدوات قواعد البيانات التقليدية من التقاط، وتخزين، وإدارة وتحليل تلك البيانات. إن ما هو ضخم اليوم، لن يكون كذلك غداً. وما هو ضخم بالنسبة لك، يعد صغيراً جداً لغيرك.

ومع مرور الزمن أصبحت البيانات التي ينتجها المستخدمون تنمو بشكل متسارع لعدة أسباب، منها بيانات المشتريات في محال السوبر ماركت والأسواق التجارية وفواتير الشحن والمصارف والصحة والشبكات الاجتماعية. فإنها كلها تسهم في زيادة حجم البيانات المنتجة.

تلك التقنية سيكون لها كلمة السر لاستشراف المستقبل. ذات يوم قامت شركة جوجل بتهنئة أحد موظفيها بحمل ابنته، الغريب في الأمر أن الأب وابنته لم يعرفا بالحمل، وسبيل جوجل نحو تلك الحقيقة كان من خلال الكلمات البحثية التي تقوم البنت بالبحث عنها.

إننا في معهد دبي القضائي نستشرف المستقبل من خلال قراءتنا للمعلومات غير المنتظمة المتاحة لدينا، لذا فإننا قمنا بتنظيم ندوة بعنوان “الروبوتات قادمة” هدفنا من خلالها إلى تسليط الضوء على أهمية الاستعداد للتنظيم التشريعي لتلك الآلات وما ستحدثه في مستقبلنا لأنها ستدخل لا محالة في كافة مناحي حياتنا.

فقد تساءل معالي محمد القرقاوي في القمة الحكومية: إذا كان (واتسون)، أذكى إنسان آلي، يخزن الآن مليوني صفحة في ذهنه، فكيف سيكون حالنا إذا تمكن من تخزين كل الصفحات في العالم؟

وقال: ستكون هذه الأجهزة الذكية في المستقبل قادرة على تشخيص المريض، وربما فحص نبضات قلبه عن بعد، وربما الاتصال بالمريض قبل أن يقع له مكروه فتوجهه للتصرف المناسب أو تطلب منه التوجه لمستشفى معين فيه الأدوية المطلوبة.

ناهيك عن استخداماته في مجالات مختلفة مثل التعليم والخدمات العامة المختلفة.