بعد مرور حوالي 12 سنةً على الاحتلال الأميركي للعراق تثبت الأيام أن الإدارة الأميركية ارتكبت خطأً استراتيجياً رهيباً في الإطاحة بنظام الحكم السابق. رغم مساوئه فنار النظام الدكتاتوري السابق خير من جنة الديمقراطية المجوقلة التي جلبت معها غلاة المذهبية والطائفية والعرقية والحزبية السياسية الفاشية الدموية. بفعلها المثير للجدل أدخلت الإدارة الأميركية عوامل الفوضى في المنطقة.
ليس تباكياً عليه، فالنظام العراقي السابق كان قد ساهم في توطيد الاستقرار الإقليمي والدولي. فهو من جانب وقف بصلابة منقطعة النظير أمام تصدير الثورة الإيرانية، خاصة لجهة شرق المتوسط. كان قد وقف حجر عثرة كبيراً أمام التدخلات الخارجية الأخرى من تركية وغربية، تؤدي إلى العبث بالمعادلة الإقليمية والدولية. في الوقت ذاته كان يشكل قوة ردع يُحسب حسابها أمام الأطماع الإسرائيلية والإمبريالية الجيو- استراتيجية.
الأكثر أهمية مما سبق، فلقد نجح النظام العراقي السابق بلجم وكبت الحركات الشيطانية التي تعبث بأمن العراق داخلياً. أهم تلك المسميات مظلومية الأقليات والأكثرية وتعقُّب الخصوم السياسيين. بالنتيجة أعطت الإدارة الأميركية الفرصة لغلاة الطوائف والمذاهب للعب دور في تقرير السياسات المحلية العراقية والإقليمية الشرق أوسطية والدولية عموماً.
حالياً ينقسم العراق إلى قطبين رئيسيين شديدي التنافر. يمثّل الأول القوى الموالية للحكومات الفاشلة المتعاقبة. الأخيرة ومنذ البداية سلكت سلوكاً طائفياً جعلها يُشار إليها بالبنان في أنشطة طائفية انتشرت خاصةً في مؤسسات الدولة المهمّة، الجيش والشرطة وأجهزة الأمن، وحتى أجهزة التعليم والصحة وباقي الوزارات، تنخر الطائفية في مفاصلها وعضدها؛ تجعلها غير قادرة على ضبط الأوضاع. تواجه الحكومة المركزية مشاكل عديدة متفاقمة مع المكونات الطائفية.
التيار الرئيسي الثاني هو تيار الانتفاضة التي يقودها العرب السنّة. هؤلاء واجهوا بعد الاحتلال حملات من التنكيل والطمس والإقصاء والتهميش والإذلال، إجراءات جعلت من وجودهم في العراق غير مرغوب فيه. مورست عليهم أعمال من القمع والملاحقة والاعتقال وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان.
الآن تستعر نار الحرب بين رأسين حادّين يمثّلان الأطراف الرئيسية المتناحرة حتى نخاع العظم. الأول إعلامياً يقوده تنظيم داعش، والثاني يقوده «الحشد الشعبي». الأول بدأ وتطوّر من صناعة مثيرة للجدل منذ البداية، والثاني نشأ على إثر فتوى مذهبية عن مرجعية غامضة في الأوساط الاجتماعية والسياسية والإعلامية.
التياران العقائديان المتصارعان يرتكبان أعمالاً خطيرةً ضد حقوق الإنسان العراقي تكاد تأتي على كل أخضر ويابس. تشهد على ذلك سوح الوغى في جل المدن العراقية التي دخلتها عناصر تنظيم داعش أولاً وجيش أفواج الحشد الشعبي لاحقاً.
الأطراف المتصارعة تختلف على كل شيء؛ حتى من جهة شروق الشمس، إلى جنس الملائكة، إلى الطائفة الوحيدة الناجية المزكّاة لدخول الجنة. الشيء الوحيد الذي يجمع بين الداعشيين والحشديين هو الخسارة المشتركة للوطن والشعب والثروات التي تُلحق بهما بسبب الاقتتال؛ الذي لا توجد ما يلوح في الآفاق على قرب توقّفه. الشعب العراقي يدفع غالياً فاتورة الصراع على الوجود والسلطة بين التيارات التقليدية والمستجدة.
لم يعد هنالك دولة اسمها العراق، فالبلد مقسّم بين شيعة وسنّة وكرد، وأشباه كيانات على هامش الأحداث. وفي حال قررت واشنطن، بالتعاون مع أطراف أخرى، توجيه ضربة تقسيمية للعراق فلن تحتاج جهداً كبيراً.