يصرّ بعض المفكّرين والمعارضين العرب على الحديث فقط عن «المسألة الديمقراطية» وعن تغيير «أنظمة الاستبداد»، بمعزلٍ كامل عن قضايا أخرى مهمّة تتّصل بحاضر الأمَّة العربية وتاريخها المعاصر، كقضية التحرّر الوطني من الاحتلال أو الهيمنة الأجنبية، أو قضية الصراع العربي الصهيوني التي هي فاعلة في كلّ ما تشهده المنطقة الآن من تطوّرات سياسية وأمنية، أو حتّى في قضية هويّة الأوطان العربية التي تطمسها الآن هُويّات فئوية ضيقة تُمهّد لمرحلة الدويلات الطائفية والإثنية.
حبّذا لو يُدرك هؤلاء أنّهم يعيدون بذلك فتح أبواب الأوطان العربية للنفوذ الأجنبي، ولإعادة حقبة «المستعمرات العربية» التي أسقطتها ثورات عربية تحرّرية حقيقية في منتصف القرن الماضي، بعد عقودٍ من النضال الوطني امتدّ من المغرب إلى جزائر المليون شهيد، إلى تونس، إلى ليبيا عمر المختار، إلى مصر عبد الناصر، إلى عدن والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان. فتلك كانت ثورات جادّة من أجل أوطانها وشعوبها، وأدّت إلى توحيد شعوبها وإلى تعزيز الهويّة العربية المشتركة، فيما «الثورات الحديثة» تنفخ في بوق التدخّل الأجنبي وتُسهّل عودة القوى العسكرية الغربية التي كانت تحتلّ الأرض العربية وتستنزف ثرواتها، بل ما هو أخطر من ذلك، هو هذا التفكّك الوطني والشعبي الذي يحدث في مجتمعات «الثورات الحديثة».
ما يحدث الآن داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالة مهمّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.
لكن الفتن الداخلية العربية الجارية الآن في أكثر من مكان، لا يمكن عزلها عن الصراع العربي الصهيوني على مدى مئة عام. فلم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفيذ «وعد بلفور» بإنشاء إسرائيل دون تقطيع الجسم العربي، حيث تزامن الوعد البريطاني مع الاتفاق البريطاني الفرنسي المعروف باسم «سايكس- بيكو» الذي أوجد كياناتٍ متصارعة ضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين.
ربّما يكون ما يحدث اليوم على الأرض العربية تتويجاً لحروب المئة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ اتفاقيات «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، ثمّ تطبيع بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها كانت غير كافية لتثبيت «شرعية» الوجود الإسرائيلي في فلسطين، ولتهويد القدس ومعظم الضفة الغربية، فهذه «الشرعية» تتطلّب قيام دويلاتٍ أخرى في محيط «إسرائيل» على أسس دينية أيضاً. وكلّما ازدادت الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق.
برغم ذلك، استمرّت بعض قوى المعارضات العربية بالمراهنة على دعم الخارج لمعاركها الداخلية، ويتواصل عربياً تهميش القضية الفلسطينية وتجاهل العامل الإسرائيلي في حروب العرب بعضهم مع بعض، وفي نشأة جماعات التطرّف والإرهاب بالمنطقة التي نرى مثالاً لها مؤخّراً، وليس أخيراً، في جماعات «داعش» و«النصرة»!
في حقبة الصراعات الدموية العربية، ستواصل إسرائيل بناء المستوطنات، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينيي 1948 لتهجير ما أمكن منهم إلى «دويلات» تحتاج إليهم عدداً، بل ربّما يكون ذلك، بالتخطيط الإسرائيلي، الوقت المناسب لجعل الأردن «الوطن الفلسطيني البديل» مع أجزاء من الضفة الغربية.
إسرائيل بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزّأ عربياً، وشجّعت كل الحركات الانفصالية بالمنطقة كالتي قامت في جنوب السودان وشمال العراق، مثلما أقامت «دولة لبنان الحر» في جنوب لبنان في عام 1979 كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفي.
إسرائيل التي رفضت وترفض قرار تقسيم فلسطين (رقم 181)، هي نفسها التي عملت وتعمل على تقسيم البلاد العربية، إذ إنّ قرار التقسيم يعني إعلان حدود دولية لإسرائيل، ووجود دولة فلسطينية مستقلّة على ما هو أشمل بكثير من الضفة الغربية وغزّة، كما يعني وضع القدس وجوارها تحت الوصاية الدولية، وهي أمور كلّها مرفوضة من كلّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.