كنتُ أتنقّل بين أجنحة معرض أبوظبي للكتاب في بهجة تُحاكي فرحة صغير يدخل للمرة الأولى لحديقة ألعاب كبرى، لا يستهويني شيء كما تستهويني الكتب، ولم أبلع فكرة أن أحوِّل قراءتي إلى الأجهزة المحمولة، فمتعة القراءة لا تكتمل إن لم تعانق أصابعي غلاف الكتاب وصفحاته وأشم بين ثنايا الورق تلك الرائحة التي تنقلك لعوالم أخرى لا تلجها ولا تعرفها شاشات الآيباد الباردة.

وقفت متسمراً وأنا أرى نسخة كاملة من تاريخ دمشق لابن عساكر فلطالما بحثت عنه سنين طويلة فلم أجد إلا لماماً ونزراً يسيراً منه بدعوى أن أغلبه قد فُقِد، كنتُ مشغولاً بتحميل أجزائه التي قاربت الأربعين مجلداً وصاحبي يقول: ما لك وللتاريخ؟ عليك بالحاضر وخطط للمستقبل فقد شبعنا من التباكي على الماضي وملَّ الناس من كوننا أصحاب حضارة امتدت من كشغر بالصين إلى مشارف فرنسا، عِش يومك ونافس البقية قبل أن نصحو على غدٍ لا نجد لنا فيه موضع قدم.

كلامٌ في مجمله صحيح لكنه من باب لزوم ما لا يلزم، فجوهره لا يتناقض مع قضية مراجعة التاريخ كما هو، فما لم تقف على أرضٍ صلبة وإلا لن تقوَ على السير، وما لم يَشُدَّ السهمَ وترٌ قوي للوراء وإلا سيتعذر بلوغه لمرماه البعيد، فنحن فعلاً لم نقرأ التاريخ، بل قرأنا «انتقائية» أشخاص له، فكان ما قرأناه على افتراض حسن نية من انتقاه وبالاً علينا لأننا لم نجد قياساً حقيقياً لما واجهنا وسنواجه من دورات الزمن وتكرار الحوادث، فكتب التاريخ التي قرأنا في المدارس كانت «وردية» أكثر من اللازم، فصادرت من أحداثه السيئ وتجاوزت من تفاصيله عن القبيح، فلم نقرأ إلا عن الخلافة الأموية والتي تَلَتْها فجأة الخلافة العباسية من خلال معركة يتم ذكرها على استحياء هي معركة الزاب، وكأن تلك المعركة كانت مجرد دُعابة مرّت سريعاً واستتب الأمر لبني العباس.

في تلك المعركة قُتل من جيش الأمويين قرابة 200 ألف جندي بعضهم مات غرقاً وهو يهرب من سيوف جيش أبي مسلم الخراساني، وهو أمر لم تذكره كتب التاريخ «الـمُمَكيج»، كما لم تذكر أن ابراهيم بن محمد مؤسس الدعوة العباسية الفعلي أوصى الطاغية أبو مسلم الخراساني بوصية رهيبة ذكرها الطبري وغيره خلال بدء الثورة في أرض فارس وخراسان منها قوله: «اقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شُبهة ومن وقع في نفسك منه شيء، وإن استطعت ألّا تدعَ بخراسان لساناً عربياً فافعل» لذا تذكر الروايات أنه قتل من العرب أكثر من 700 ألف انسان في سعيه لجعل مادّة دعوته من الفرس ممن طُبعوا على الخضوع للأكاسرة ومن سيكون في صِفتهم لاحقاً لان العرب كثيرو التقلّب ودائمو الاعتراض والمناكفة، وقام بُعيدها بعملية تصفية مرعبة لكل الولاة وأعيان المدن التي وقعت تحت سطوة سيفه، ولم يكن بغريب أن نرى مساحيق الماكياج تخفي أن أبا العباس السفاح بعد أن أعطى من بقي من بني أمية الأمان دخل عليه شاعر خسيس اسمه «سديف» فأنشده قصيدة يُثيره عليهم فأمر السياف فقتلهم ووضع البُسُطَ عليهم ثم تناول غداءه على حشرجات الموت عند من بقي منهم في رمقه الأخير.

بنو أمية بدورهم لم يكونوا كلهم كعمر بن عبدالعزيز، ففي أواخرهم كثرت الثورات ضد ظلمهم وعنصريتهم واستفحال الفقر في العديد من الأقاليم ما ساعد العباسيين على تمرير مشروع دولتهم كنصير للضعفاء والمضطهدين وهو ما نراه دوماً حيث لا تخرج الأجندات الخفية إلا عندما يتحرك العامة بعد أن يعضهم ناب الفقر والجوع وتلسعهم سياط الظلم والاستبداد، وعندما يفقد الناس الأمل يتعلقون بأي قشة، لذا انتشر فكر الخوارج بين البربر (الأمازيغ) في شمال افريقيا والأندلس كردة فعل تجاه العنصرية القبلية عند يوسف بن عبدالرحمن الفهري، فحدثت النفرة بين البربر والعرب وكثرت حمامات الدماء ثم انتقل الداء إلى العرب أنفسهم بين المضريين والحجازيين، وهكذا عندما تغيب الصورة الكاملة عن المسؤول ولا يراعي كامل نسيجه المجتمعي وأطيافه فإن الشرر سرعان ما سيخرج، وسيركب موجته كل متربّص وكل مندس ينتظر أن يأخذ الآخرين على حين غرة.

حوادث الدنيا ومسارات التاريخ تتكرر باستمرار، هناك من يعي كيف حدثت في السابق ليعرف كيف يواجهها في القادم من الايام فينجح وتستقيم له الأمور، أمّا من يتجاهل التاريخ فسيصبح كالأعمى الذي تبدو له كل الأمور مفاجئة ، نحن لا نريد أن نعيش في الماضي ولكن ننظر له لنتعلّم من دروسه ، فالمستقبل ليس مجرد قفزة للمجهول، لكنه معرفة بما تم وكيف تم ثم البناء على ذلك في السير للأمام، فالجميع يستطيع الانطلاق في سباق المدنية ولكن المستعد جيداً فقط والعارف بما قد يحصل وكيف سيواجهه هو من يستطيع انهاء السباق متقدماً على البقية.